الواقع الكذاب - مصطفى محمود


ما نراه فى الواقع ليس دائماً هو الحقيقة ..
حتى ما نراه رأى العين ونلمسه لمس اليد ..
فنحن نرى الشمس بأعيننا تدوى كل يوم حول الأرض، ومع ذلك فالحقيقة أن العكس هو الصحيح ، والأرض هى التى تدور حول الشمس .
ونحن نرى القمر فى السماء أكبر الكواكب حجماً، مع أنه أصغرها حجماً .
ونحن نلمس الحديد فنشعر بأنه صلب متدامج، مع انه فى الحقيقة عبارة عن ذرات منثورة فى فراغ مُخلخل،وبين الذرة والذرة كما بين نجوم السما بُعداً .. وما يُخيل لنا باللمس أنه صلابة وتدامج هو فى الحقيقة قوى الجذب المغنطيسى الكهربائى بين الذرة والذرة .. نحن نلمس القوانين بأصابعنا وليس الحديد !
ونحن ننظر الى السماء على أنها فوق ، والأرض على انها تحت، مع انه لا يوجد فوق ولا تحت .. والسماء تُحيط بالأرض فى كل جوانبها .
والهرم بالنسبة لنا شئ لا يمكن إختراقة، مع انه بالنسبة للأشعة الكونية شفاف كلوح الزجاج، ترى من خلاله وتنفذ من خلاله .
وصقيع القطبين الذين نظن أنه غاية فى البرودة هو بالنسبة لبرودة أعماق الفضاء جحيم مُلتهب .
وفى الحقائق الانسانية تكذب علينا العين واللسان والأذن أكثر وأكثر .. فالقُبلة التى تصورناها فى البداية مشروع حب نكتشف فى النهاية أنها كانت مشروع سرقة .
وجريمة القتل التى أحس الجميع بأنها ذروة الكراهية يكتشف الجميع أنها ذروة حب .
وما قد يبدو للزوج أنه خيانة من زوجته لفرط إحساسها بجمالها قد يكون الدافع الحقيقى له هو احساس الزوجة بقبحها وشعورها بالنقص، تحاول الخلاص منه باستدراج إعجاب الرجال ، والانتقال من خيانة الى اخرى .
وما تكتب عنه الجرائد بالإجماع على أنه بطولة قد يعلم البطل نفسه أنه كان انتحاراً .
وفى الحقائق الاجتماعية تتعقد الأمور أكثر، ويغرق الحق فى شبكة من التزييف تشترك فيه كل الارادات، ويصبح الحكم على الأمور بظاهرها سذاجة لا حد لها.
وفى الحقائق التاريخية يكتب المؤرخون فى كل عصر ومن ورائهم السُلطة، وتكتب أقلامهم ما يريد الأقوياء أن يقولوا .
وما أصعب الوصول الى الحقيقة ..
ان الوصول الى المريخ أسهل من الوصول الى حقيقة أكيدة عن حياة وردة تتفتح كل يوم عند نافذتك .. بل ان الوصول الى أبعد نجم فى متاهات الفضاء أسهل من الوصول الى حقيقة ما يهمس فى قلب امرأة على بعد شبر منك .
بل أن عقولنا تزين علينا حتى عواطفنا نفسها، فنظن أن حب المجد يدفعنا والحقيقة أنه الغرور وحب الذات .. ونظن أن العدالة هى التى تدفعنا الى القسوة فى حين أن الذى يدفعنا هو الحسد والحقد .
من الذى يستطيع أن يقول .. لقد أدركت الحقيقة ؟
من الذى يجرؤ أن يدعى أنه عرف نفسه ؟
ليس من باب التواضع أن نقول .. الله أعلم .
وانما هى الحقيقة الوحيدة الأكيدة فى الدنيا .. إننا نجهل كل الجهل حتى ما يجرى تحت أسماعنا وأبصارنا .
وبرغم جهلنا يتعصب كل فريق لرأى .. وقد تصور كل واحد أنه أمتلك الحق ، فراح ينصب المشانق والمحارق للآخرين .
ولو أدركنا جهلنا وقدرنا لا نفتح باب الرحمة والحب فى قلوبنا ، ولأصبحت الحياة على الأرض جديرة بأن نحياها .
متى نعرف أنّا لا نعرف ؟!

0 للتعليق >>> إضغط هنا: