ليون تروتسكى






 طالما بقيت على قيد الحياة سأناضل من أجل المستقبل، ذلك المستقبل البراق حيث يكون الإنسان أقوى وأجمل، ويصبح سيدًا لحركة التاريخ العلوية، ليدفعه نحو أفق من الجمال اللا محدود والمتعة والسعادة..
كان ليون تروتسكي يبلغ من العمر إحدى وعشرين عامًا عندما كتب هذه الكلمات، ولم يكن يدري أنه في غضون سنوات قليلة سيصبح واحدًا من ألمع القادة البلاشفة في ثورة أكتوبر 1917.
في 26 أكتوبر 1879 ولد ليف دافيدوفيتش برونشتاين (الاسم الحقيقي لتروتسكي) لأسرة يهودية في أوكرانيا، وكان أبوه فلاحًا غنيًا، وإلا لما استطاع تروتسكي أن يحصل إلا على قدر ضئيل من التعليم في بلد كانت حكومته تشجع معاداة السامية ومذابح اليهود، وبعد فترة من الرومانسية الثورية أصبح تروتسكي ماركسيًا، وقبض عليه للمرة الأولى في سن التاسعة عشر وحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا بعد قضاء 18 شهرًا في اسجن، ولكنه هرب في 1902 ومنذ ذلك الوقت وحتى موته أصبحت الثورة مهنته.
 حلق نجم تروتسكي عاليًا في ثورة 1905 عندما قاد جماهير العمال في سوفييت بتروجراد، وطور أعظم مساهماته في النظرية الماركسية – نظرية الثورة الدائمة، وكان يبلغ من العمر آنذاك 26 عامًا، ونكتفي هنا بالقول أن عبقرية تروتسكي قد قادته في سن مبكرة لاكتشاف المسار التاريخي لثورة ظافرة في البلاد المتأخرة اقتصاديًا. حيث تستطيع الطبقة العاملة المنظمة قيادة جماهير الفلاحين الفقراء نحو الثورة الاشتراكية نتيجة لطبيعة التطور اللامتكافئ والمركب الناتج عن توسع الإمبريالية في تلك البلاد، وأن هذه الثورة – لكي تستطيع أن تزيح الروث البرجوازي بكامله عليها أن تمتد نحو آفاق الثورة العالمية.
قبل ذلك بعامين خاض تروتسكي معركة حامية الوطيس ضد لينين عندما انقسم البلاشفة والمناشفة في مؤتمر 1903 حول مسألة العضوية والمركزية الديمقراطية، تبنى تروتسكي موقف المناشفة ووجه نقدًا لاذعًا ضد "بونابرتية" لينين المركزية. فمثل روزا لوكسمبورج كان تروتسكي يعتقد أن تطور النضال الجماهيري للمال سينتج عنه تطور وعي البروليتاريا لتلعب دورها السياسي المستقل، وأن الحزب الثوري سيكون بالأساس انعكاسًا لتطور وعي الطبقة العاملة. ولكن يبدو أن ثورة فبراير 1905 واستتباعاتها قد أقنعت تروتسكي بصحة آراء لينين بأن منظمة طليعية متجانسة سياسيًا مثل البلاشفة هي وحدها التي تستطيع أن تدفع الحركة العفوية للصراع الطبقي نحو الاستيلاء على سلطة الدولة. في أطروحات إبريل 1917 تبنى لينين نظرية الثورية الدائمة وكان ذلك وراء انضمام تروتسكي إلى البلاشفة في صيف 1917، ولكن بدون البلاشفة كانت نظرية الثورة الدائمة ستظل رغم كل مواهب تروتسكي كقائد جماهيري، بناءًا نظريًا مجردًا يفتقد الآليات القادرة على تحقيقه.
بعد موت روزا لوكسمبورج كتب لينين في رثائها: "أحيانًا ما تطير النسور في مستوى أقل من الدجاج، ولكن يستحيل أن يرتفع الدجاج إلى قسم النسور"، أكد لينين أن روزا لوكسمبورج رغم كل أخطائها كانت نسرًا، نفس الشيء ينطبق على تروتسكي عند مارنة موقفه في 1903 بصعوده المدهش خلال ثورة 1905.
انضم تروتسكي إلى الحزب البلشفي في يوليو 1917 – الذي أصبح حزبًا جماهيريًا بحلول ذلك الوقت – وبقوة شخصيته وموهبته وسمعته أصبح تروتسكي في غضون أسابيع قليلة الرجل الثاني، بعد لينين، في قيادة الجماهير المؤيدة للحزب. تولى تروتسكي مهمة التنظيم الفعلي لانتفاضة أكتوبر، وأصبح وهو في الثامنة والثلاثين من العمر من أهم قيادات الحزب والدولة، وبعد ذلك بفترة وجيزة، أحد أهم قيادات الحركة الشيوعية العالمية – الاسمية الشيوعية. وكان إلى جانب ذلك كله مؤسس وقائد الجيش الأحمر وذا تأثير واسع في كل مجالات الحياة السياسية.
لم يتعرض واحد من قادة البلاشفة لمثل التشويه والهجوم الذي تعرض له تروتسكي، فلا يخلو إصدار تقريبًا لدار التقدم من صفحة أو اثنتين عن تروتسكي عميل الفاشية والمعادي للثورة الاشتراكية. إن هذا التزييف والتشويه لواحد من أهم قيادات الثورة الاشتراكية يمثل في الحقيقة أحد جوانب الثورة المضادة منذ سيطرة البيروقراطية بقيادة ستالين على الحزب والدولة، ومنذ بدأ تروتسكي سلسلة جديدة من النضالات دفاعًا عن مبادئ أكتوبر والثورة البروليتارية العالمية.
ففي مواجهة سيطرة البيروقراطية بعد تطور السياسة الاقتصادية الجديدة، أسس تروتسكي المعارضة اليسارية في 1923، وقد وصف تروتسكي نفسه الخلفية التي قامت عليها المعارضة اليسارية قائلا:
"على أساس السياسة الاقتصادية الجديدة، عادت إلى الظهور شريحة واسعة من البرجوازية الصغيرة في المدن، وانتعش الليبراليون من جديد. وفي الريف استطاع الكولاك – أغنياء الفلاحين – أن يرفعوا رؤوسهم. ثم قامت قطاعات كبيرة من المسئولين الحكوميين، تمامًا لأنهم أصبحوا سلطة فوق الجماهير، بالتقرب من الشرائح البرجوازية، وأقاموا علاقات عائلية معهم".
لقد قامت المعارضة اليسارية في مواجهة الطبقات التي صعدت مع السياسة الاقتصادية الجديدة – البيروقراطية، ورجال النيب (السياسة الاقتصادية الجديدة)، والكولاك (أغنياء الفلاحين) – وكانت تهدف إلى مقرطة الحزب وتخفيض الجهاز البيروقراطي والتوسع في التصنيع من خلال الضغط المالي على الكولاك ورجال النيب لمواجهة البطالة وإحياء الطبقة العاملة اقتصاديًا وسياسيًا وبالتالي خلق أساس الديمقراطية السوفيتية.
وقوبل تروتسكي بالرفض القاطع من رجالات الحزب والدولة – جناح ستالين – لأطروحاته، ومع إعلان "الاشتراكية في بلد واحد" في 1928 التي بلورت تمامًا اتجاه ستالين إلى نظام رأسمالية الدولة نفي تروتسكي من روسيا، واندفعت الطبقة الحاكمة في حملة من التشويه ضد الجنرال الأعزل.
ومع ذلك ظل تروتسكي يتقد طيلة حياته أن روسيا لا زالت دولة عمالية ولكنها مشوهة بيروقراطيًا. لن نخوض طويلاً في خلفيات هذا الموقف لضيق المجال ولكن يكفي أن نقول أن كتاب تروتسكي نفسه "الثورة المقدورة" يكاد يعلن أنها رأسمالية دولة. إن خطأ تروتسكي في تمسكه بنظرية الدولة العمالية المنحطة بيروقراطيًا يعود إلى تحليله الخاطئ للأوضاع في روسيا استنادًا إلى شكل ملكية رأس المال، وليس إلى مضمونها، حيث اعتقد بأن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج (التأميم) يعني ملكية المجتمع (الملكية الاشتراكية)، وبالإضافة إلى ذلك تصور أن البيروقراطية لا يمكن أن تشكل طبقة حاكمة تحركها مصالحها الخاصة في منافسة مع طبقات حاكمة وأخرى وأعتقد أنها لا يمكن إلا أن تمثل مصالح طبقة اجتماعية محددة، وحيث أن الطبقة الحاكمة قد تم القضاء عليها، وأن الطبقة العاملة قد صفيت بسبب الحروب والمجاعة فإن البيروقراطية معلقة في الهواء، تتردد أحيانًا نحو اليمين بتأييد رجال النيب والكولاك وأحيانًا نحو اليسار بالتجميع القسري في الزراعة. وبالطبع – اتساقًا مع هذا المنطق – فإن هذا الوضع مؤقت بطبيعته إلى أن تقوم الطبقة العاملة بثورة سياسية تعيد إليها السيطرة على وسائل الإنتاج.
ولكن البيروقراطية – على حد تعبير توني كليف – لعبت في الواقع دور التشخيص الأمثل لرأس المال، فقضت على بقاسا السيطرة العمالية على الإنتاج، وأخضعت استهلاك الطبقة العاملة لمصالح التراكم التنافسي مع الطبقات الحاكمة في الغرب، واستخدمت نفوذها السياسي في الحصول على مكاسب اقتصادية من خلال أبشع وسائل استغلال واستنزاف جماهير العمال والفلاحين. ودعمت ذلك كله من خلال جهاز دولة قمعي ومستبد. إن التأميم تحت سيطرة البيروقراطية كان يخدم رأس المال وليس له علاقة بالتأميم تحت سيطرة العمال (سيطرة الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج) الجوهر الحقيقي للثورة العمالية.
إن النسور لا تهدأ وإن كانت على قمم الجبال، فهي دائمًا تنظر إلى البعيد، وتحلق في كل اتجاه مهما اشتدت العواصف، ورغم أن تروتسكي قد تحطمت أجنحته مع انحطاط الثورة الروسية إلا أنه ظل يحدق في البعيد ويستخدم ريشته بإتقان، هاجم تروتسكي المقولة الزائفة عن إقامة الاشتراكية في بلد واحد، وأصر على أن مصير الاشتراكية مرتبط بالثورة البروليتارية العالمية وظل يناضل حتى آخر قطرة من دمه – الذي أريق غدرًا على يد أحد عملاء ستالين بالمكسيك – ضد خيانات الستالينية لحركة الطبقة العاملة العالمية وخزعبلاتها المدمرة.
كان تروتسكي أشد المدافعين حدة عن استقلال حركة الطبقة العاملة كما اتضح من موقفه من الثورة الصينية 25 / 1927 عندما دعا ستالين وبوخارين بعد سيطرتهم على الأممية الثالثة الحزب الشيوعي الصيني إلى الدخول في تحالف مع الكومنتانج – الممثل للجناح الوطني من البرجوازية الصينية والذي منح عضوية شرفية في الأممية الشيوعية – من أجل إنجاز "الثورة الوطنية الديمقراطية" لتحرير الصين من الاستغلال الأجنبي، كان تروتسكي قد جرد تمامًا من أي تأثير سياسي داخل الحزب الروسي بعد سيطرة الجناح البيروقراطي بقيادة ستالين، رغم أنه لم يزل عضوًا في المكتب السياسي، طالب تروتسكي بانسحاب الحزب الشيوعي الصيني من حلف الكومنتانج في إبريل 1926، وبنفس الحدة والوضوح العبقري الذي ظل يلازمه طوال حياته كتب تروتسكي تعليقًا على التحالف الرباعي الذي قاده الكومنتانج بمباركة ستالين والحزب الشيوعي الصيني تحت واجهة الثورة البرجوازية الديمقراطية (تحالف بين البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المدينية والعمال والفلاحين):
".. ما معنى ذلك على أي حال – كتلة من أربع طبقات؟! هل واجهنا هذا التعبير في التراث الماركسي من قبل؟! إذا قادت البرجوازية جماهير المقهورين تحت لافتة برجوازية واستولت على سلطة الدولة من خلال هذه القيادة، إذن فذلك ليس تكتلا ولكنه استغلال البرجوازية السياسي لجماهير المقهورين..".
وغني عن الذكر أنه بعد انتصار الطبقة العاملة على نظام لوردات الحرب أمر الكومنتانج بنزع سلاح العمال ولم يبد الحزب الشيوعي الصيني مقاومة تذكر، وكانت النتيجة تعرض عناصر الحزب الشيوعي للذبح واستئصال الحركة العمالية على أيدي الكومنتاج البرجوازي.
كانت سيطرة ستالين ومجموعته على الاسمية الشيوعية تتحدد بعاملين، أولا باحتياجات جناح ستالين في الصراعات الداخلية في الحزب في الاتحاد السوفيتي، ثم بعد ذلك، باحتياجات السياسة الخارجية لحكومة ستالين. فبعد فترة وجيزة من التذبذب "اليساري" في 1924، اندفع الكومنترن (الأممية الشيوعية) في اتجاه اليمين حتى عام 1928، ثم تطرف يساري من 1928 إلى 1934 وأخيرًا نحو اليمين في فترة الجبهة الشعبية من 1935 إلى 1939، وجه تروتسكي انتقادات عنيفة للكومنترن في كل تردداته، وأثبتت الأحداث اللاحقة بعد نظره. في بريطانيا اندفع الحزب الشيوعي وراء قيادات النقابات بتوجيهات اللجنة النقابية الأنجلوسوفيتية، وكانت النتيجة أن فشل الحزب في كسب تأييد الطبقة العاملة بعد خيانة القيادات النقابية لاضطراب 1926 في بريطانيا.
وفي صيف 1928 قامت الأممية الشيوعية بتحول جديد، هذه المرة نحو التطرف اليساري من النوع البيروقراطي حيث تم تجاهل الظروف المحلية للأحزاب الشيوعية في البلاد المختلفة، كان ذلك يعني في الممارسة أنه في عصر صعود خطر الفاشية خاصة في ألمانيا اعتبرت أحزاب الأممية أن الاشتراكيين الديمقراطيين – الجناح الإصلاحي في الحركة العمالية آنذاك – هم العدو الرئيسي. ووضعت في سلة واحدة الاشتراكيين الديمقراطيين والنقابات العمالية التابعة لهم مع الفاشية. وتمتعت كتابات تروتسكي حول الفاشية بوضوح عبقري وسعة أفق متميزة نادرصا ما توفرت لأي ماركسي آخر، فقد كتب عن ألمانيا:
".. إن النمو الهائل للاشتراكية الوطنية (الفاشية) هو تعبير عن عاملين: أزمة اجتماعية عميقة تدفع جماهير البرجوازية الصغيرة إلى حالة من عدم التوازن، وافتقاد حزب ثوري يمكن أن تعتبره الجماهير اليوم القيادة الثورية المعترف بها. فإذا كان الحزب الشيوعي هو حزب الطموح الثوري، فإن الفاشية كحركة جماهيرية هي حزب الإحباط المضاد للثورة، وعندما يهيمن الطموح الثوري على جماهير البروليتاريا، سيجر وراءه بالضرورة على الطريق الثوري قطاعات من البرجوازية الصغيرة، وبالضبط في هذا المجال بينت الانتخابات (الألمانية) العكس: فالإحباط المضاد للثورة هيمن على جماهير البرجوازية الصغيرة بالقوة التي استطاعت أن تجر وراءها قطاعات كبيرة من البروليتاريا.
أصبحت الفاشية في ألمانيا خطرًا حقيقيًا كتعبير حاد عن الوضع المأزوم للنظام البرجوازي والدور المحافظ للاشتراكية الديمقراطية والعجز التاريخي للحزب الشيوعي في القضاء عليها. إن من ينكر ذلك إما أن يكون أعمى أو مغرور".
في مواجهة ذلك دعا تروتسكي أن تقوم الطبقة العاملة بالدفاع المنظم عن نفسها ضد خطر الفاشية من خلال تكتيك الجبهة المتحدة، وذلك بهدف توحيد أحزاب الطبقة العاملة حول مهمة دفاعية ضد خطر الفاشية. رفض الكومنترن ذلك تحت خطابة يسارية زائفة تخفي ضعفهم الحقيقي، ونتيجة لذلك وصل هتلر إلى السلطة وانهارت الحركة العمالية.
بعد انتصار هتلر اندفعت الطبقة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي إلى التحالف العسكري مع القوى الغربية المسيطرة آنذاك فرنسا وبريطانيا، واتجهت الأممية الشيوعية من جديد إلى اليمين، فصرح المؤتمر السابع والأخير للأممية في 1935 أن الثورة ليست على جدول الأعمال ونادى بـ"الجبهة الشعبية المتحدة للنضال من أجل السلام.. وكل من يهمهم أمر الحفاظ على السلام يجب جذبهم إلى هذه الجبهة".. وكان من بين هؤلاء بالطبع الطبقات الحاكمة في فرنسا وبريطانيا. وكان نتيجة ذلك إخضاع مصالح الطبقة العاملة للإمبريالية والطبقات الحاكمة المحلية، والأهم للسياسة الخارجية للستالينية.
ولم يقتصر دور تروتسكي على إيضاح النتائج الكارثية لهذه السياسة وإنما حاول بشكل مباشر تنبيه الأحزاب الشيوعية التي اتبعتها إلى مخاطر تذيل البرجوازية، كما حدث في أسبانيا وفرنسا – كتب تروتسكي في 1937:
"كانت البروليتاريا الأسبانية من ناحية أهميتها في الحياة الاقتصادية للبلاد ومستواها الثقافي والسياسي في أول أيام الثورة تفوق البروليتاريا الروسية في بداية 1917. ولكن منظماتها الخاصة كانت العقبة الرئيسية في طريق انتصارها... فنتيجة لنشاطهم (الستالينين وحلفائهم) تم إخضاع معسكر الثورة الاجتماعية – العمال والفلاحين – لمصالح البرجوازية". وأضاف:
"إن الجبهة الشعبية، بتبنيها مهمة إنقاذ النظام الرأسمالي، حكمت على نفسها بالهزيمة، ونجح ستالين من خلال قلب البلشفية رأسًا على عقب، في القيام بدور حفار قبر الثورة".
كتب تروتسكي في يومياته في 25 مارس 1935:
"أعتقد أن العمل الذي أقوم به الآن، رغم عدم كفايته وتفتته، لهو أهم عمل أقوم به في حياتي، أهم من 1917، وأهم من فترة الحرب الأهلية أو أي شيء آخر... هكذا لا أستطيع أن أتكلم عن ضرورة أعمالي حتى في الفترة من 1917 إلى 1921، ولكن عمل الآن لا غنى عنه بكل معنى الكلمة... لا يوجد أحد غيري ليقوم بمهمة تسليح الأجيال الجديدة بالمنهج الثوري رغم أنف قيادات الأممية الثانية والثالثة".
إن السبيل الوحيد للحفاظ على التراث الماركسي الثوري، للحفاظ على الماركسية، هو تطبيق هذا التراث على الصراع الطبقي، إن جوهر الماركسية هو وحدة النظرية والممارسة، لقد استكمل لينين وروزا لوكسمبورج وتروتسكي مهمة ماركس وانجلز، والاستمرار لا يعني التكرار، ولكنه يعني استخدام تعاليم الأجيال السابقة في التفاعل مع القضايا الجديدة التي يطرحها الواقع.
وعلى الرغم من أن أعمال تروتسكي في الفترة من أواخر العشرينات إلى 1940 كانت كما قال هو شخصيًا أهم أعماله، لأنه أبقى على شعلة البلشفية وربى أجيالا متماسكة حول التراث الماركسي الأصيل إلا أنه وقع في عدة أخطاء استراتيجية: أهمها كان تأسيسه للأممية الرابعة على أساس تحليل خاطئ للوضع العالمي، فمن ناحية لم يكن لأتباع تروتسكي قاعدة تذكر في أوساط الطبقة العاملة التي كان يسيطر عليها الأحزاب الستالينية والاشتراكية الديمقراطية، فجاءت الأممية من أوساط برجوازية صغيرة – حلقات صغيرة – منعزلة وفوقية. ومن ناحية أخرى كان تروتسكي يرى أن أزمة النظام الرأسمالي في ذلك الوقت هي أزمته الأخيرة وأن الطبقة العاملة قريبًا ستثور من جديد وبالتالي جاء خطأ تروتسكي الثاني وهو صياغة البرنامج المطلبي الانتقالي للأممية الرابعة الذي اعتمد على إفلاس النظام الرأسمالي وأزمته الاقتصادية والاجتماعية.
إن كتابات تروتسكي في السنوات من 1928 إلى 1940 – المقالات والكتب حول التطورات في ألمانيا وفرنسا وأسبانيا تعد من أروع الأدبيات الماركسية، وتوضع في مصاف أفضل كتابات ماركس التاريخية، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" و"الصراع الطبقي في فرنسا"، فلم يقتصر تروتسكي على تحليل المواقف، ولكنه وضع خطا واضحا لحركة البروليتاريا.
ومن ناحية أخرى يتجاوز كتاب تروتسكي تاريخ الثورة الروسية أي كتابات تاريخية ماركسية أخرى، فهو يعتبر مأثرة فنية تحليلية غير مسبوقة في عناها وجمالها.
إن أجيالاً من الماركسيين في الحاضر والمستقبل سيحملون شعلة الثورة التي تركها لينين ولوكسمبورج وتروتسكي وتراث كوميونة باريس والثورة الروسية في 1905 و1917 والثورة الصينية في 25 – 1927 واثورة الأسبانية.. إلخ. إن إسهامات تروتسكي دين في أعناقنا، فبدون معارضته لستالين، وبدون أمميته، وبدون تراث "الاشتراكية من أسفل"، بدون ذلك كله لكان ارتباط الاشتراكية بالتحرر الذاتي للطبقة العاملة مهددًا بالضياع.



المصدر : مركز الدراسات الاشتراكية
.

0 للتعليق >>> إضغط هنا: