ـ كتاب الأناركية مجتمع بلا رؤساء ـ لـِ : أحمد زكى ـ 1


 


   
_ الاناركية مجتمع بلا رؤساء او المدرسة الثورية التي لم يعرفها الشرق
 

   إعداد وعرض:احمد زكي
مقدمة:

في العالم اليوم...
"من أوروبا الشرقية حتى الأرجنتين، ومن سياتل حتى مومباي، تتوالد من الأفكار والمبادئ الأناركية رؤى وأحلام راديكالية جديدة. وغالبا لا يطلق أولئك المدافعون عن هذه الأفكار على أنفسهم اسم: "الأناركيون". انهم يسمون انفسهم أسماء اخرى مثل انصار "التسيير الذاتي - autonomism، مناهضة السلطوية - anti-authoritarianism، العمل الافقي - horizontality، الزاباتاوية - Zapatismo، الديموقراطية المباشرة - direct democracy..". الا ان المرء يستطيع ان يميز في هذه الفرق جميعها نفس جوهر المبادئ الاناركية: اللامركزية، الانضمام الطوعي للجمعيات، المعونة المتبادلة، انماط شبكات العمل، وفوق كل شيء، نبذ فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وإهمال فكرة أن شغل الفرد الثوري الشاغل هو الاستيلاء على سلطة الدولة ثم يبدأ، بعد ذلك، فرض افكار جماعته بقوة السلاح” .
وفي التاريخ القريب بالامس...
ارتفعت راية الاناركية وسط اهم احداث التمرد الاجتماعي في تاريخ الغرب الحديث: من كوميونة باريس1871، وعبر الثورة الروسية 1917، الى الحرب الاهلية الاسبانية 1936-1939.
في كل عصر ومع كل مجتمع، تتغير ملامح الاناركية ويتغير وجودها المادي، "...حتى ان الاناركية الان كفكرة، وفوق كل شيء، كأخلاقيات للممارسة العملية – قد تطورت لتصبح فكرة بناء مجتمع جديد ’من داخل قشرة القديم‘” . ومع ذلك، الاناركية دون شك هي فكرة من اكثر الافكار التي ساء تصويرها في النظرية السياسية!
ما هي الاناركية؟
الاناركية كلمة يونانية تتكون من مقطعين: "أنا"، و"آركي"، حيث كلمة "أنا" تعني "دون"، وكلمة "آركي" معناها "رئيس" او "سلطة"، اي هي الفكرة الداعية الى مجتمع "دون رؤساء" او "دون سلطة". لذا، فالاناركية في التحليل الاخير هي اسم اصطلح على اطلاقه على تلاوين شتى من تيار عريض من تيارات الحركة الاشتراكية الحديثة، نشأ من رحم الثورة الفرنسية الكبرى (1789 – 1815) التي كانت اهم العلامات الفارقة على اجتياح وسيادة النظام الرأسمالي مجتمعات الغرب بداية ثم توسعه وانتشاره حتى شمل مجتمعات الكوكب كله تقريبا.
تفترض معظم بيانات تاريخ الأناركية أنها كانت مماثلة جوهريا للماركسية: برزت الأناركية كبنات أفكار لعدد معين من مفكري القرن التاسع عشر (برودون، وباكونين، وكروبتكين...)، واستمرت حينئذ في الهام منظمات الطبقة العاملة، والمضطهدين اجتماعيا، ودخلت في نسيج النضالات السياسية وانقسمت إلى شيع...
ولا يعني الأناركيون بفكرة "مجتمع بلا رؤساء"، انه مجتمع يتكون من نمط واحد لافراد متماثلين في كل شيء، حتى انك لا تستطيع التمييز بينهم، بنفس القدر الذي لا تستطيع التمييز به بين اصناف الدجاج الذي تنتجه صناعة الدواجن الحديثة. بل إن الأمر عند الأناركيين هو، للمفارقة، النقيض من ذلك تماما. فهذه المدرسة الثورية، على اختلاف جماعاتها، تشترك في اعلاء قيمة الحرية الفردية، وكراهية الايديولوجيا، وتعلو بمرتبة الحرية الشخصية علوا سامقا. بل ان هناك من تلاوينها من يصل بقدسية الحرية الشخصية الى حدها الاقصى – فريق "الفردويين – individualists"، ومنهم حتى من يرفض التكنولوجيا الحديثة بما تمليه على البشر من اعتمادية وما تفرضه من تقسيم للعمل وبناء هياكل تراتبية لتسيير المجتمع، وبالتالي التنازل عن حريتهم الشخصية مقابل ما يقدمه لهم هذا التطور التكنولوجي من تسهيلات في المعيشة اليومية (البدائيون primitivists).
يرفض الاناركيون القبول بفكرة ان تحتكر قلة من افراد المجتمع ايا كانت مبررات وجود هذه القلة امتيازات يترتب عليها حصولهم على منافع وفوائد لا تنعم بها الاغلبية. ويرون ان هذا الاحتكار سوف يمكن هذه القلة من تملك سلطة اتخاذ القرار في مختلف اوجه المعيشة على حساب مصلحة الاغلبية.
على ان كلمة "الاناركية" في معظم اللغات الاوروبية، فضلا عن كونها اسم لهذه المدرسة من الاشتراكية، فهي تستخدم لغويا ايضا بمعنى "الفوضى". او، على حد تعبير اريكو مالاتيستا : "حيث ان المعتقد الشائع هو ان الحكومة امر ضروري وانه دون حكومات لا يمكن وجود سوى الفوضى والاضطراب، من الطبيعي والمنطقي ان الاناركية، والتي تعني غياب الحكومة، يجب ان تعني غياب النظام العام" .
وعند ترجمة الصحافة السياسية العربية لهذا المصطلح السياسي حول بدايات القرن العشرين، لم تستعمل هذه الصحافة المصطلح السياسي – الاناركية - ولكنها استخدمت الاستعمال اللغوي الاوروبي الشائع للكلمة، "الفوضى"، واشتقت منه اسما للحركة - "الفوضوية". ولهذا اصبح من الطبيعي ان تشتق اسما للداعين لها وهو "الفوضويون" اي الداعون الى الفوضى وشريعة الغاب. وهكذا اتفق الشرق والغرب على امر وهما نادرا ما يتفقان.
ولكن ببساطة، لم يكن ابدا المعنى الاصلي الضيق لكلمة اناركية هو "لا حكومة" وفقط. الاناركية معناها هو "دون رؤساء"، او المعنى الاكثر شيوعا، "دون سلطة"، وهو المعنى الذي يستخدمه الاناركيون باستمرار. مثلا نرى كروبتكين يدافع عن الاناركية بمنطق أنها "لا تهاجم فقط الرأسمال، ولكنها تهاجم ايضا المصدر الاكبر لسلطة الرأسمالية: القانون والسلطة والدولة".
لهذا السبب، بدلا من كون الاناركية مناهضة للدولة او للحكومة بشكل صرف، فهي اوليا حركة ضد التراتب الهرمي في المجتمعات. لماذا؟ لان التراتب الاجتماعي الهرمي هو الهيكل التنظيمي الذي يجسد السلطة. وحيث ان الدولة هي الشكل "الاعلى" للتراتب الهرمي، فالاناركية، بحكم التعريف، معادية للدولة؛ ولكن هذا لا يصلح ان يكون تعريفا كافيا للاناركية.
هذا يعني ان الاناركيين الحقيقيين يعارضون كل اشكال التنظيم التراتبي الهرمي، وليس الدولة فقط. في كلمات بريان موريس : "الاناركيون هم اناس يرفضون كل اشكال الحكومات او السلطة القهرية، كل اشكال التراتب الهرمي والهيمنة. لذلك هم يعارضون ما تسميه الناشطة الحركية المكسيكية فلوريس مورجان ’الثالوث الكئيب‘ – الدولة والرأسمال والكنيسة. وهكذا يصبح الاناركيين معارضون لوجود الدولة والرأسمالية كلتيهما، اضافة الى كل اشكال الدين والسلطة. ولكن الاناركيين يسعون ايضا الى تأسيس او الى حدوث شروط تحقيق اناركية اجتماعية، بمعنى، مجتمع لا مركزي دون مؤسسات قهرية، مجتمع ينتظم من خلال فدراليات للجمعيات الطوعية"
وتأتي فكرة "التراتب الاجتماعي الهرمي" في هذا السياق كتطور اخير في فكر الاناركيين؛ الاناركيون "الكلاسيكيون" أمثال برودون وباكونين وكروبتكين استخدموا هذه الكلمة ولكن في احوال نادرة، كانوا يفضلون استخدام كلمة "السلطة"، والتي كانت تستخدم اختصارا لكلمة "سلطوية". ومع ذلك، يتضح من كتابات هؤلاء الرواد الثلاثة ان اناركيتهم كانت فلسفة ضد التراتب الاجتماعي الهرمي، وضد التفاوت في السلطة والامتيازات بين الافراد. تكلم باكونين عن ذلك عندما هاجم السلطة "الرسمية" ولكنه دافع عن "النفوذ الطبيعي"، وايضا عندما قال: "هل تريد ان تسمح لأي فرد ان يظلم اخيه الانسان؛ ثم تبات متأكدا ان السلطة لن يحتكرها احدا؟"
وبشكل اكثر عمومية في كلمات ل. سوزان براون ، "الصلة الموحدة" بين الاناركيين هي "ادانة عامة للتراتب الهرمي والسيطرة واستعداد للقتال من اجل حرية الانسان الفرد ".
وفقط لتقرير ما هو واضح، الاناركية لا تعني الفوضى ولا يسعى الاناركيون لخلق الفوضى او حالة انعدام النظام العام. على العكس، يرى الاناركيون انهم يرغبون في خلق مجتمع يقوم على اساس الحرية الفردية والتعاون الطوعي. بكلمات اخرى، هم يقولون بفكرة ان النظام العام يبنى من اسفل لاعلى، وليس النظام المختل المفروض من اعلى على من هو ادنى بواسطة اشكال متنوعة من السلطة. مثل هذا المجتمع سوف يكون مجتمعا اناركيا حقيقيا، مجتمعا بلا رؤساء.
وقد لخص نعوم شومسكي الملمح الرئيسي للاناركية في حوار له حول الاناركية، عندما قرر انه في مجتمع حر عن حق "اي تفاعلات بين البشر في مستوى اكثر من كونه تفاعلات شخصية – بمعنى تفاعل يتخذ اشكال مؤسسية من نوع او اخر – في المجتمع المحلي، او في مكان العمل، او في العائلة او في المجتمع الاوسع، مهما يكون شكله، يجب ان يخضع هذا التفاعل للسيطرة المباشرة للمشاركين فيه. وبالتالي، الامر يعني إنشاء مجالس العمال في الصناعة، وإقامة الديموقراطية الشعبية في التجمعات السكانية المحلية، والتفاعل بين هذه الاشكال، وإنشاء جمعيات حرة للجماعات الاكبر، حتى نصل الى تنظيم المجتمع الدولي ذاته ".
ترفض الاناركية انقسام المجتمع في تراتب هرمي من رؤساء للعمل اسفلهم عمال، أو الى حكام ومحكومين. في الاخير، تنادي الاناركية بمجتمع يقوم على اساس جمعيات حرة طوعية من تنظيمات تشاركية تدار من اسفل الى اعلى.
اشتراكية الاناركية
يقول بيتر كروبتكين، الاناركية هي "النظام الاشتراكي بلا حكومة" .
لذلك، الاناركية هي نظرية سياسية تستهدف خلق مجتمع بلا هياكل هرمية تراتبية سياسية او اقتصادية او اجتماعية. تصر الاناركية على ان غياب الحكام والرؤساء، هو شرط حيوي للنظام الاجتماعي ومجتمع بهذا الشكل هو مجتمع يعمل من اجل تعظيم الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية. انهم يرون في هدفي الحرية والمساواة عونا ودعما ذاتيا لبعضهما البعض. او كما في القول المشهور عن باكونين: "نحن مقتنعون ان الحرية دون اشتراكية هي امتياز واجحاف، وان الاشتراكية دون حرية هي عبودية وبربرية" .
وفي الوقت الذي توجد فيه فرق مختلفة من الاناركيين (من الاناركية الفردوية الى الاناركية الشيوعية) الا ان هناك موقفان مشتركان في جوهر افكار الاناركيين يجمعان بينهم كلهم في تيار واحد، وهما: معارضة وجود الحكومات، ومعارضة وجود الرأسمالية.
ففي كلمات الاناركي الفردوي بنيامين توكر ، تصر الاناركية على "الغاء الدولة والغاء الربا الفاحش؛ نهاية حكم الانسان لأخيه الانسان، ونهاية استغلال الانسان لأخيه الانسان". يرى كل الاناركيين في الربح، والفائدة والريع ربا فاحشا (اي استغلال) ولهذا هم يعارضون هذه الاشكال الثلاث، ويعارضون الشروط التي تخلقهم بنفس القدر الذي يعارضون به الحكومات والدولة.
بالنسبة للاناركيين لا يمكن للانسان ان يكون حرا، اذا ما كان خاضعا لدولة او لسلطة رأسمالية.
وهكذا الاناركية هي نظرية سياسية تدافع عن خلق مجتمع يقوم على اساس قاعدة "لا رؤساء". وحتى يتحقق ذلك، فهم "بالاشتراك مع كل الاشتراكيين، يصرون على ان الملكية الفردية للارض والرأسمال والالات انتهى زمانها؛ وانه بات محكوما على الملكية الفردية بالاختفاء: وان كل شروط الانتاج المسبقة تصبح وسوف تصبح هي الملكية الجماعية للمجتمع، وتدار وسوف تدار بشكل مشترك بواسطة منتجي الثروة انفسهم. و... يستمر الاناركيون في تأكيد ان النموذج المثالي للتنظيم السياسي للمجتمع هو حالة الاشياء حين تختزل وظيفة الحكومات الى الحد الادنى... [و] ان الهدف النهائي للمجتمع هو اختزال وظيفة الحكومات الى لا شيء – بمعنى، مجتمع دون حكومات" .
على ان معارضة الاناركية للتراتب الاجتماعي الهرمي، لم تقتصر على مجرد معارضة الدولة او الحكومة. فمعارضتهم تلك تناهض كل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السلطوية كذلك، خصوصا تلك العلاقات الناشئة عن الملكية الرأسمالية والعمل المأجور.
في العموم يؤمن الاناركيون بتعددية وتنوع اشكال العلاقات داخل المجتمعات البشرية، كعمال منتجين في الصناعة، وكفلاحين في الزراعة، وفي الاخير كافراد منتجين في شتى مجالات المعيشة. ولكنهم لا يؤمنون بالملكية الشخصية لوسائل الانتاج وينادون ويعملون من اجل تفعيل اشكال الملكية الجماعية لوسائل الانتاج في المجتمعات الانسانية.
يمكننا رؤية ذلك عند برودون وحجته التي يسوقها للدفاع عن فكرته: "الرأسمال... في المجال السياسي صنو للحكومة... الفكرة الاقتصادية للرأسمالية، والفكرة السياسية للحكومة (او للسلطة)، والفكرة اللاهوتية للكنيسة هي ثلاث افكار متماثلة تماما، تتصل بطرق متنوعة مع بعضها البعض. الهجوم على واحدة منها يعادل الهجوم على الافكار الثلاث كلها.. ما يرتكبه الرأسمال في حق العمال، ترتكبه الدولة في حق الحرية، والكنيسة في حق الروح. ثالوث الاستبداد هذا ضار في الواقع العملي ضرره في الفلسفة. الوسيلة الاكثر فعالية لاضطهاد الناس سوف تكون تلقائيا استعباد جسدهم (الرأسمالية) واستعباد ارادتهم (الدولة) واستعباد عقلهم (الكنيسة)" . وهكذا نجد ايما جولدمان تعارض الرأسمالية حين تقول، "يجب على هذا الرجل [او تلك المرأة] بيع عمله" ولذلك، "تخضع ميولهما وحكمهما على الامور لارادة سيدهم" . قبلها باربعين عام وضع باكونين نفس الفكرة عندما دافع بقوله انه "في ظل النظام الحالي [الرأسمالي] يبيع العامل شخصيته وحريته لحصة معينة من الوقت" للرأسمالي صاحب العمل مقابل الاجر” .
وهكذا الاناركية هي كلا من نفي وايجاب. الاناركية تحلل وتنتقد المجتمع الحالي بينما هي في نفس الوقت تمنح رؤية لصورة مجتمع جديد – مجتمع يوفي بحاجات انسانية معينة ينكرها المجتمع الحالي على اغلب اعضاءه. تلك الحاجات، الاكثرها اساسية، هي الحرية والمساواة والتضامن.

ـ الاناركية والتغيير الاجتماعي ـ
يجب ان نلاحظ ان الاناركيين في عملهم لا ينتظرون لحظة قيام الثورة حتى يطبقوا افكارهم بل انهم يحاولون خلق كثير من صور هذا المجتمع في العالم المعاش: في منظماتهم، واساليب نشاطهم، بقدر استطاعتهم.
الاناركية توحد التحليل النقدي بالامل، كما يشير باكونين، "الدافع لأن تدمر هو دافع خلاق".
الا ان الاناركية هي ايضا اكثر من مجرد اداة للتحليل او اداة لرؤية المجتمع الافضل. الاناركية تضرب بجذورها في الكفاح، كفاح المظلومين من اجل حريتهم. بكلمات اخرى، الاناركية توفر وسائل تحقيق نظام جديد يقوم على احتياجات الناس، وليس السلطة، وهي تضع مصلحة الكوكب قبل الربح.
يقول المناضل الاناركي الاسكتلندي ستيوارت كريستي: "الاناركية هي كلا من نظرية وممارسة للحياة. فلسفيا تستهدف الاناركية اقصى توافق بين الفرد، والمجتمع والطبيعة. عمليا، تستهدف الاناركية بالنسبة لنا تنظيم حياتنا ومعيشتنا بطريقة تجعل من السياسيين والحكومات والدول وموظفيها امرا زائدا لا لزوم له. في المجتمع الاناركي، الافراد اصحاب السلطان والاحترام المتبادل سوف ينتظمون في علاقات غير ارغامية داخل مجتمعات لها حدودها الطبيعية يمتلكون فيها وسائل الانتاج والتوزيع بشكل مشاعي.
"الاناركيون ليسوا اشخاصا حالمين تسيطر عليهم هواجس المبادئ المجردة والابنية النظرية.. الاناركيون على دراية جيدة بأن المجتمع التام لا يمكن الظفر به غدا. فعليا، الكفاح يستمر الى الابد! ومع ذلك، الاناركية هي الرؤية التي تمنح الدافع والحافز للكفاح ضد الاشياء كما تكون، ومن اجل الاشياء التي قد تكون...
"في الاخير، الكفاح فقط هو ما يحدد النتائج، والتقدم نحو مجتمع محلي له معناه، يجب ان يبدأ بارادة للمقاومة ضد كل شكل من اشكال الظلم. بمعايير عامة، يعني هذا تحدي كل اشكال الاستغلال والاستهانة بشرعية كل السلطات الارغامية. لو ان لدى الاناركيين بندا واحدا من اليقين الذي لا يهتز، فهو يتمثل في انه، فور انتهاء الاعتياد على الرجوع بالامر الى السياسيين او الايديولوجيين، وفور اكتساب عادة مقاومة الهيمنة والاستغلال، فمن ثم، سوف يمتلك الانسان العادي الطاقة والقدرة على تنظيم كل جانب من جوانب حياته بما فيه مصلحته، في اي مكان وفي اي زمان، بحرية وبقدر طيب من الانسجام.
"لا ينزوي الاناركيون في ركن بعيدا عن الكفاح الشعبي، ولا هم يحاولون الهيمنة عليه. انهم يبحثون عن المساهمة عمليا بما يستطيعونه، وايضا يبحثون عن مساعدة الكفاح وفي داخله اعلى مستوى ممكن من التطور الذاتي للافراد ومن التضامن الجماعي. من الممكن التعرف على الافكار الاناركية المتعلقة بالعلاقات الطوعية، والمشاركة المساواتية في عمليات اتخاذ القرار، والمعونة المتبادلة والنقد المتعلق بكل اشكال الهيمنة في الحركات الثورية والاجتماعية والفلسفية في كل الازمان وفي كل مكان" .
يرى الاناركي الصربي اندريه جروباتشيك في الاناركية "ظاهرة اجتماعية يتغير محتواها بالإضافة إلى مظاهر نشاطها السياسى مع الوقت. فالطابع الوحيد ذو الطبيعة الخاصة المرتبط بالأناركية، هو أنها على عكس كل الأيديولوجيات الكبرى لا يمكن أن يتأتى لها وجود ثابت ومستمر على الأرض من خلال كونها سلطة حكومية أو لكونها جزء من النظام السياسى. يأتى تاريخ الاناركية وسماتها المعاصرة من عامل آخر – إنها موجات من الكفاح السياسى. نتيجة لذلك، ينتهي جروباتشيك الى ان الاناركية "تمتلك ميلا نحو "تعاقب الأجيال"، بمعنى انك تستطيع أن تحدد فى تاريخها موجات محددة المعالم جدا، طبقا لفترة الكفاح التى تشكلت فيها” .
تاريخيا، تشكلت الموجة الأولى للكفاح الاناركي خلال الصراع الطبقى فى غرب أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان ممثلها النظرى والعملى هو جناح "باكونين" فى الأممية الأولى. تصاعدت بدايات هذه المرحلة من عام 1848، وبلغت ذروتها مع كوميونة باريس 1871، وترنحت طوال ثمانينات هذا القرن بعد هزيمة الكوميونة.
الموجة الثانية، من تسعينات القرن التاسع عشر حتى الحرب الأهلية الروسية (1918 - 1924)، شهدت هذه الفترة إزاحة واضحة لمركز الحركة الاناركية من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية وأصبحت لذلك تعطى اهتماما أوضح للفلاحين حيث ان تطور الصناعة في هذا الجزء من اوروبا كان لا يزال ادنى كثيرا من مستواه في غربها. ولهذا كانت شيوعية "كروبتكين " الأناركية، نظريا، هى السمة الغالبة. بلغت المرحلة قمتها مع جيش "ماخنو" الثوري في اوكرانيا الفلاحية ابان الثورة الروسية 1917، وانتقلت بعد انتصار البلشفية إلى أوروبا الوسطى متغلغة داخل التيارات الراديكالية التى كانت تعمل تحت السطح آنذاك.
تركزت الموجة الثالثة، من عشرينات القرن العشرين حتى أواخر الأربعينيات، فى وسط وغرب أوروبا مرة ثانية، وحصرت توجهها مرة أخرى في الطبقة العاملة الصناعية. نظريا، كانت تلك الفترة هي ذروة النقابية الأناركية (السينديكالية). أكثر الأعمال قام بها المنفيون الروس الذين طردتهم الثورة البلشفية من روسيا. وانتهت قمتها مع هزيمة الثورة في الحرب الاهلية الاسبانية (1936 – 1939)، وقيام الحرب العالمية الثانية. ومن هذه اللحظة، بات التباين بين النوعين الرئيسيين فى التقاليد الأناركية واضحا للعيان: الشيوعية الأناركية، التى يمكن أن نعتبر، على سبيل المثال، أن "بيتر كروبتكين" يمثلها – وعلى الجانب الآخر، تقاليد النقابية الأناركية التى ترى ببساطة فى الأفكار الأناركية النمط السليم والصالح لتنظيم المجتمعات الصناعية المتقدمة، عالية التعقيد. يندمج تيار النقابية الأناركية هذا، ويتشابك بواسطة علاقات عدة بتلاوين من الجناح اليسارى فى الماركسية، وهو النوع الذى يجده المرء، مثلا، فى شيوعيى المجالس، الذين يستمدون افكارهم من تراث روزا لكسمبرج، والذين مثلهم لاحقا، بخطاب قوي مؤثر جدا، منظرون ماركسيون مثل انطون بانيكوك .
بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت الأناركية هبوطا عاما كبيرا، فقد شهدت بلدان غرب اوروبا قيام دول الرفاه الاجتماعي مع اكتمال مشروع مارشال، واطبق الستار الحديدي على شرقها، وفي الجنوب العالمي غلب نفوذ الاتجاهات الموالية للسوفيت على اشكال الكفاح المناهض للامبريالية.
يقول جروباتشيك، "نضالات الستينات والسبعينات لم تشهد بروزا جديا للأناركية، التى كانت لا تزال محملة بأثقال تاريخها، ولم تستطع التكيف مع اللغة السياسية الجديدة التى لا تبنى مفردات قاموسها على صراع الطبقات. ولهذا فأنت تجد نزعات أناركية فى مجموعات شديدة التنوع بدءا من الجماعات المناهضة للحرب (قضية فيتنام)، والحركة النسوية، والسود الخ، ولكنك لا تجد جماعة منهم فى حد ذاتها تصف نفسها ايجابيا بأنها أناركية" .
فمن الواضح أن الجماعات الأناركية فى هذا الوقت كان حالها لا أكثر ولا اقل من تكرار معاد للموجتين السابقتين (الاناركيين النقابيين الثوريون والاناركيين الشيوعيين)، وكانوا جماعات شديدة الانعزالية - فبدلا من الانخراط مع الأشكال الجديدة من التعبير السياسى للستينات، انغلقوا على أنفسهم، وعادة ما اقروا مواثيق غاية فى الجمود على شاكلة الأناركيين الذين يسمون انفسهم بـ "البرنامجيين ذوى التقاليد الماخنوية” (Platformists). لذا، هذا هو الجيل الرابع "الشبح".
بالوصول إلى الزمن الحاضر، نجد جيلين يتعايشا داخل الأناركية: الاول هم اهل الستينات والسبعينات الذين شكلتهم سياسيا هذه السنوات (والذين كانوا فعلا إعادة تجسيد للموجة الثانية والثالثة)، والجيل الثاني هم الشباب الأكثر معرفة بقضايا السكان الأصليين والأقليات، ومناصرى قضايا المرأة، ودعاة البيئة، وأصحاب التفكير النقدى للثقافات البشرية. الجيل الاول تجده في إتحادات فدرالية أناركية، مثل الـ IWW (عمال العالم الصناعيون)، والـ IWA (جمعية العمال الاممية)، والـ NEFAC (الفدرالية الشمالية الشرقية للشيوعيين الاناركيين)، وأشباههم. أما الجيل الثاني تجده أكثر بروزا فى شبكات عمل الحركة الاجتماعية الجديدة. ويرى جروباتشيك ان منظمة التحرك الكوكبي للشعوب - Peoples Global Action، تحتل مرتبة "الكيان الرئيسى فى تيار الجيل الخامس من الأناركية” .
 


المصدر :الأناركية بالعربى
.... تابع قراءة التدوينة

الإستراتيجيات العشر لخداع الجماهير ـ نعوم تشومسكى


1- إستراتيجية الإلهاء
عنصر أساسي للضبط الاجتماعي، تتمثل إستراتيجية التسلية في تحويل أنظار الرأي العام عن المشاكل الهامة والتحويلات المقررة من طرف النخب السياسية والاقتصادية، وذلك بواسطة طوفان مستمر من الترفيهات والأخبار اللامجدية. إستراتيجية الإلهاء هي أيضا لازمة لمنع الجمهور من الاهتمام بالمعارف الأساسية، في ميادين العلوم، الاقتصاد، علم النفس، وعلم التحكمية... "الإبقاء على انتباه الجمهور مسلى، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، مأسورا بمواضيع دون فائدة حقيقية. الحفاظ على جمهور منشغل، منشغل، منشغل، دون أدنى وقت للتفكير؛ ليرجع إلى ضيعة مع باقي الحيوانات" كما جاء في كلام تشومسكي نقلا عن نص استخباراتي "أسلحة كاتمة من أجل حروب هادئة"

2- خلق المشاكل، ثم تقديم الحلول
هذه الطريقة تدعى أيضا "مشكلة-ردة فعل-حلول" نخلق أولا مشكلا، حالة يتوقع أن تحدث ردة فعل معينة من طرف الجمهور، بحيث يقوم هذا الأخير بطلب إجراءات تتوقع قبولها الهيئة الحاكمة.مثلا، غض الطرف عن نمو العنف الحضري، أو تنظيم هجمات دموية، حتى يطالب الرأي العام بقوانين أمنية على حساب الحريات. أو أيضا: خلق أزمة اقتصادية لتمرير -كشر لا بد منه- تراجع الحقوق الاجتماعية وتفكيك المرافق العمومية.

3- إستراتيجية التقهقر
من أجل تقبل إجراء غير مقبول، يكفي تطبيقه تدريجيا، - بالتقسيط -، على مدى عشر سنوات. فبهذه الطريقة تم فرض ظروف سوسيو-اقتصادية حديثة كليا -الليبرالية الجديدة- في فترات سنوات الثمانينيات. بطالة مكثفة، هشاشة اجتماعية، مرونة، تحويل مقرات المعامل، أجور هزيلة، كثير من التغييرات كانت لتحدث الثورة لو تم تطبيقها بقوة.

4- إستراتيجية المؤجل
طريقة أخرى لإقرار قرار غير شعبي، هي في تقديمها ك " شر لا بد منه "، عبر الحصول على موافقة الرأي العام في الوقت الحاضر من أجل التطبيق في المستقبل. من السهل دائما قبول تضحية مستقبلية بدل تضحية عاجلة. أولا، لأن المجهود لا يتم بذله في الحال. ثم يميل الجمهور إلى الأمل في " مستقبل أفضل غدا " وإن التضحية المطلوبة قد يتم تجنبها. وأخيرا، هذا من شانه أن يترك الوقت للجمهور للتعود على فكرة التغيير وقبولها باستكانة عندما يحين الوقت.

5- مخاطبة الرأي العام كأطفال صغار
تستخدم أغلب الإشهارات كلما توجهت إلى الكبار خطابا، لماذا؟ ات، شخصيات ولهجة صبيانية جدا، غالبا ما تكون اقرب إلى التخلف العقلي، كما لو كان المشاهد طفلا صغيرا أو معاقا ذهنيا. كلما حاولنا خداع المشاهد، كلما تبنينا لهجة صبياني، لماذا؟؟ إذا توجهنا إلى طفل في الثانية عشرة من عمره، فبسبب الإيحائية إذن، سيكون من المحتمل جوابه أو ردة فعله خالية من الحس النقدي "كما لطفل في الثانية عشرة من عمره".

6- اللجوء إلى العاطفة بدل التفكير
اللجوء إلى العاطفة هي تقنية كلاسيكية لسد التحليل العقلاني، وبالتالي الحس النقدي للأفراد. كما أن استخدام المخزون العاطفي يسمح بفتح باب الولوج إلى اللاوعي، وذلك من أجل غرس أفكار، رغبات، مخاوف، ميولات، أو سلوكيات...
الإبقاء على الجمهور/العامة في الجهل والخطيئة
العمل على أن لا يفهم الجمهور التقنيات والطرائق المستخدمة من أجل ضبطه وعبوديته. " يجب أن تكون جودة التربية المقدمة إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا هي الأضعف، بحيث تكون وتبقى هوة الجهل التي تعزل الطبقات الاجتماعية الدنيا عن الطبقات العليا غير مفهومة للطبقات الدنيا " عن أسلحة كاتمة من أجل حروب هادئة"

8- تشجيع الجمهور على استساغة البلادة:
تشجيع الجمهور على تقبل أن يكون أخرقا، أبلها، فظا، جاهلا.

9- تعويض الانتفاضة بالشعور بالذنب
جعل الفرد يشعر أنه هو المسئول الوحيد عن شقائه، بسبب نقص ذكائه، قدراته أو مجهوداته. وهكذا، بدل الانتفاض ضد النظام الاقتصادي، يشعر الفرد بالذنب، ويحط من تقديره الذاتي، مما يسبب حالة اكتئابية من آثارها تثبيط الفعل. ودون فعل، لا ثورة كذلك...!

10- معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم
خلال الخمسين سنة الأخيرة، حفر التقدم المذهل للعلوم هوة متنامية بين معارف العوام وتلك التي تمتلكها النخب الحاكمة. بفضل البيولوجيا، البيولوجيا العصبية وعلم النفس التطبيقي، توصلت الأنظمة إلى معرفة متقدمة بالكائن البشري، نفسيا وبدنيا.. توصل النظام إلى معرفة الفرد المتوسط أكثر مما يعرف هو ذاته. هذا يعني أنه في معظم الحالات، للنظام سيطرة وسلطة على الأفراد أكثر مما لهم أنفسهم...
.... تابع قراءة التدوينة

اوهام


انا المشتاق
لحلم بعيد .. بقاله سنين
عايش فيا
مابيفارق خطاويا
ولا دارى لفين رايح
ولا دى الرحلة بإيديا
نعود ونلون الأيام
ونرسمها لطريق قدام
الآقى خطوتى الجايه
ماهيش ليا 
واشوف الحلم بعنيا
كما الاوهام ..
انا المشتاق
.... تابع قراءة التدوينة

لست أدرى


تمنيت ألا تترُكينى وحيداً تفتك بىِ ذِكرانا الوردية ، فقط هى من كانت
تُدعمُنى بالأحلام .. بل كان عصب الحياة ينبُض حين رؤياها ،
يالها من لوحة فنية رائعة ..
كُلما نظرت لها أكتشف أشياء قد أُسدِل عنها السِتار فى مسرح الآيام
إنه الغموض ، ولكننى قد تفهمته يوماً بعد يوم
حتى سيطرت موسيقاها على أنشودة هذا الزمان
فصرت أنا وهى فقط ؛ لنا عالمنا الخاص ..
ولكِنها الآن ليست معى !  ولم أعلم الى هذه اللحظة
من آراد منا الرحيل !؟ فهى الآمال ، وانا من رسمت لوحتى
وزينتها يوما ما وفقاً لما أُريد ..
ولكن .. دون جدوى !
أين أنا .. و أين هى .
لست أدرى ..
.... تابع قراءة التدوينة

مدخل الى الأناركية ـ ليز هايليمان



ما هي الأناركية؟

إن الأناركية فلسفة سياسية مكتنفة في سوء الفهم. إلى حد كبير، يرجع هذا إلى حقيقة أن الفوضوية هي طريقة مختلفة في التفكير، حيث لا يمكن وصفها بشعارات بسيطة أو خطوط حزبية. في الواقع، إذا سألت عشرة أناركيين عن الأناركية، من المحتمل أن تحصل على عشرة إجابات مختلفة. الأناركية هي أكثر من مجرد فلسفة سياسية، بل هي طريقة حياة تشمل جوانب سياسية وعملية وشخصية.
إن العقيدة الأساسية للأناركية هي أن السلطة الهرمية - سواء كانت دولة، كنسية، بطريركية أم نخبة اقتصادية - ليست بضرورية فحسب، بل هي ضارة في حد ذاتها لتحقيق الحد الأقصى من الإمكانات البشرية. يعتقد الأناركيون عموما أن البشر قادرون على إدارة شؤونهم بأنفسهم على أساس الإبداع، التعاون، والاحترام المتبادل. هي اعتقاد بأن القوة بطبيعتها مفسدة، والسلطات حتما معنية باستمرارها الذاتي وزيادة طاقتها الخاصة، أكثر من القيام بما هو أفضل لناخبيها. عموما إن الأناركيين هم محافظين حيث أن الأخلاق مسألة شخصية، وينبغي أن تستند على رعاية الآخرين ورفاهية المجتمع، وليس بناء على قوانين تفرضها السلطة القانونية أو الدينية (بما في ذلك القوانين المبجلة مثل دستور الولايات المتحدة). معظم الفلسفات الأناركية تعتقد أن الأفراد مسؤولون عن تصرفاتهم الخاصة. السلطات الأبوية تعزز العقلية المذلة حيث يتوقع من النخب اتخاذ القرارات وتلبية احتياجات الناس، بدلا من التفكير والعمل لأنفسهم. عندما تعطي سلطة لنفسها الحق في نقض أبسط القرارات الأخلاقية الشخصية، مثل من أجل ماذا يستحق القتل أو الموت (كما في التجنيد العسكري أو الإجهاض)، تتقلص حرية الإنسان بشكل لا يقاس.
يدرك الأناركيون بأن الاتصال بين مختلف أشكال القمع - بما في ذلك التمييز على أساس التحيز الجنسي، العنصري، الجنسي المغاير، الطبقي، والشوفيني الوطني- والاعتراف بعدم جدوى المعارضة، تركز على نموذج واحد للظلم في حين أن هناك أشكال أخرى لا تزال موجودة. يعتقد الأناركيون أن الوسائل التي تستخدم لتحويل العالم يجب أن تكون متلائمة مع الغايات التي يأمل المرء في تحقيقها. يعترض الأناركيون حول الاستراتيجيات والتكتيكات -بما في ذلك الحاجة إلى منظمات رسمية- واستخدام الإجراءات العنيفة للإطاحة بالمؤسسات العنيفة القائمة، بينما يتفق الأغلبية على أن التركيز يجب أن لا يكون مجرد تدمير النظام الحالي، ولكن على تشكيل بدائل جديدة أكثر إنسانية وأكثر عقلانية لتأخذ مكانها.
الأناركيون في التاريخ
لعب الأناركيون دوراً في الحركات الثورية على مر التاريخ. بدأت الثورة الفرنسية في عام 1789 ذات عنصر بروتوفوضوي قوي. في بداية القرنين التاسع عشر والعشرين لعب أناركييون مثل بيير جوزيف برودون، بيتر كروبوتكين، ميخائيل باكونين، وأريكو مالاتيستا دوراً أساسياً في تطوير النظرية الأناركية الثورية. ولعبوا دوراً كبيراً في الحركات الثورية في روسيا في عام 1905 و 1917، ولكنها -الحركة الأناركية- في كثير من الأحيان قمعت بلا رحمة بمجرد أن البلاشفة وحدت سلطتها. كما مهدت الثورة الاسبانية 1936-1939 الطريق للتعبير على أوسع نطاق والأكثر شهرة للممارسات الفوضوية، والتي عملياً أنشأت بنجاح المنظمات الأناركية النقابية (FAI وCNT)، بدائل غير هرمية اجتماعياً واقتصادياً. في الولايات المتحدة، وكذلك في المكسيك وأميركا اللاتينية، كان هناك تأثير للأناركية السينديكالية داخل الحركة النقابية (على سبيل المثال العمال الصناعيين في العالم). في بدايات 0019 شارك أناركييون بارزون مثل غولدمان إيما والكسندر بيركمان في مجموعة متنوعة من القضايا الراديكالية. كان هناك تيار أناركي قوي في العديد من التغييرات الاجتماعية وحركات تبديل نمط الحياة قي العام 1960 (بما في ذلك أجزاء من الحركة النسوية، حركة تحرير مثلي الجنس، الحركات المناهضة للحرب وحركات الخطاب الحر)، رغم أنه في كثير من الحالات كان يتم تعتيم هذه الحركات، إن لم يكن قمعها بصراحة، عن طريق التيارات الماركسية - اللينينية - الماوية.
ما هو غير الأناركية
في محاولة لتوضيح ما هي الأناركية، فمن المفيد دراسة ما ليس أناركياً :
الشيوعية: في حين أن العديد من الأناركيين يقدّرون الطائفية والجماعية، يرفض الأناركيون حالة الشمولية الشيوعية القائمة والساقطة في الآونة الأخيرة، أو بدقة أكثر الماركسية اللينينية. تطور الخلاف بين الماركسيين والأناركيين في وقت مبكر من 1870 عندما نظر الأناركيون أن الماركسيين يستمرون باستبدادهم تحت اسم مختلف. وقد أكدت المجموعات الماركسية اللينينية على الحاجة إلى حزب الطليعة، وديكتاتورية البروليتاريا، هذه الأفكار التي تعارض بشكل أساسي الأفكار الفوضوية المناهضة للاستبداد والمنادية بالحرية الفردية القصوى. على الرغم من أن الماركسية الارثوذكسية تتنبأ بأن الدولة سوف "تتلاشى" مع مرور الوقت، فقد شهدنا مرارا وتكرارا في الأنظمة الشيوعية توحيد سلطة الدولة وقمعها بالترافق مع الإصرار على الطاعة.
التحررية : كثيرا ما يجري الخلط بين الليبراليين الأناركيين، والقيام بالتشابك في كثير من النواحي. يتقاسم الفريقان على التركيز على الحرية الفردية والرغبة في التخلص من الدولة. يولي الكثير من الليبراليين الأهتمام للفرد والتأكيد على مبدأ المصلحة الذاتية المستنيرة. في حين يميل كثير من الأناركيين إلى التركيز أكثر على المساعدة المتبادلة والجهود المبذولة لتحسين ظروف جميع أفراد المجتمع. غالبا ما تتسم الليبرالية بوجهة نظرها الاقتصادية، الأمر الذي يضع الحد الأقصى المسموح به دون عائق على رأسمالية السوق الحرة (بعض أنصار يطلقون على أنفسهم "أناركيين رأسماليين")، استباحة استخدام القوة في الدفاع عن الملكية الخاصة، تعارض أي تدخل حكومي يعيق الجهود لتعظيم المكاسب الاقتصادية الشخصية، وتخفيض القيم التي لا يمكن قياسها (عادة نقدية) اقتصادياُ. في حين أن الليبراليين مناهضين للدولة ، فإنهم غالبا لا يعارضون الهيمنة والتسلسل الهرمي في جميع أشكاله (غالبا ما يكون هناك ميل إلى "البقاء الأصلح" أو "[الاقتصاد] القوة تصنع الحق" في الفلسفة الليبرالية)، وعدم البحث جذرياً في تغيير علاقات القوة الاجتماعية، ولا سيما تلك القائمة على القوة الاقتصادية. يميل الأناركيون أكثر إلى المنظور الاشتراكي، ويفضلون التخلص من أي نظام حيث يستطيع الأثرياء تحقيق المنفعة غير المتناسقة مع من هم أقل حظا الذين يعانون من مشقة لا مبرر لها. بينما يقدر الأناركيون المبادرة الفردية، الذكاء، والإبداع، فمن المسلم به أن الذين يمتلكون هذه المواهب يعاملوا باحترام وعدالة. الموضوعية هي نوع من التطرف الليبرالي. الحزب الليبرالي معتدل نسبياً، ويميل إلى التركيز على قضايا مثل إصلاح النظام الانتخابي وإلغاء قوانين المخدرات، والحد من التنظيمات الحكومية. العديد من الليبراليين هم "ملاكيين" الذين يعتقدون أن بعض أشكال الحكومة أمر ضروري إلا أنها ينبغي أن تكون ضعيفة وغير مزعجة. مسألة ما هو نوع النظام الاقتصادي في المجتمع الأناركي هو أمر مفتوح. يعتقد بعض الأناركيون أنه يجب إلغاء جميع أشكال الرأسمالية واقتصاد السوق، والبعض الآخر يفضل النظام الذي يعزز ملكية العمال والديمقراطية القائمة على المشاركة الكاملة في إطار اقتصاد السوق، والبعض الآخر لا يزال يعتقد أن مجموعة متنوعة من النظم الاقتصادية يمكن أن تتعايش طالما انهم لا يحاولون فرض نظمها وقيمها على بعضها البعض.
الليبرالية: إن المفاهيم السياسية السائدة في هذا البلد تعادل ما بين اليسارية والأناركية وما بين اليسارية والليبرالية، ولكن هناك اختلافات حقيقية، من حيث الكم والنوع. إن فكرة "اليسار" هو مشكلة منذ 1990، حيث أن الكثير من السياسات الحديثة تميل إلى أن التموضع خارج اليسار التقليدي (ليبرالي) / اليمين (المحافظ). رغم أن معظم الأناركيين يدعمون القضايا "التقدمية" ولكن الأناركية لا تأخذ مكانها في التيار السياسي التقليدي. وقد اقترح بعض المنظرين منظومة على درجة من التسلط الاقتصادي والتسلط الاستبداد الاجتماعي باعتبارهما محورين منفصلين، كثير من الأحيان أولئك الذين يفضلون الحرية الاقتصادية يعارضون الحرية الاجتماعية، والعكس بالعكس. الكثير من السياسات التقدمية الحديثة تستند على "سياسة الهوية"، والفكرة التي تجذب اهتمامات المرء الأولية وتحالفاته هي على أساس الجنس / العرق / التوجه الجنسي. على الرغم من أن العديد من الأناركيين يستثمرون سياسة الهوية ، تتطلع الفلسفة الأناركية الأكثر شمولا الى الوقت الذي كان لا يحتاج فيها الناس إلى التركيز كثيرا على مثل هذه التصنيفات. في حين يميل الليبراليون إلى الدعوة للجهود الرامية إلى إصلاح النظام الحالي (من خلال وسائل مثل التصويت، الضغط، وبروز المنظمة)، للأناركيين وجهة نظر أكثر تطرفا، ويتمنون أن تستبدل المؤسسات الفاسدة تماما، وإعادة تشكيل مجتمع أكثر إنسانية من خلال وسائل العمل المباشر، من دون الاعتماد على أي شكل من أشكال تدخل الدولة. كما يعترف الأناركيون بقوة التطور عموما ، كذلك التبدل الثوري، كذلك يعترف بأنه من أجل تحقيق إعادة ترتيب حقيقي للمجتمع من الضروري القضاء على هيمنة العلاقات الهرمية أينما وجدت، تاريخيا لم يكن هذا أولوية الليبراليين. يسلم الأناركيون بأن شكل السلطة نفسها (سواء كانت رأسمالية، شيوعية، ديمقراطية أو توتاليتارية) هي منبع المشكلة، وعلى هذا النحو ، لا يمكن أن تكون أساسا للحل. بالرغم من أن بعض الأناركيين يرتبطون بالتصويت وينظمون الاحتجاج معتقدين بأن حتى التحسينات الصغيرة هي ترجمة جديرة بالاهتمام ، ويدركون أن مثل هذه الأنشطة هي مجرد خطوات مؤقتة، يجب على المرء أن يتخطاها لتحقيق تغيير حقيقي ودائم.
العدمية : وخلافا لعقيدة "معاداة كل شيء" في العدمية، الأناركيون لا يشجعون على العنف العشوائي، التدمير، و "كل رجل لنفسه" الخروج على القانون (على الرغم من أن هناك دائما عدد قليل من متبعي هذه الفلسفة يسمون أنفسهم "فوضويون"). والاعتقاد السائد بأن الأناركية تعادل الفوضى هو للأسف اعتقاد خاطئ نشأ من الاعتقاد وعلى نطاق واسع، غرس من قبل من هم في السلطة، أن هذه السلطة أمر ضروري للحفاظ على النظام. يعتقد الأناركيون أن تحقيق مجتمع كفوء، منظم، وعادل يكون على أسس غير مبنية على الهرمية، اللامركزية، والمشاركة.
بعض المسائل الخلافية
تحمل الأناركية وجهات نظر متباينة حول العديد من القضايا. واحدة من الخلافات الرئيسية هي مسألة الفرد مقابل المجتمع. تهتم الأناركية الفردية أهمية قصوى على حرية الفرد، في حين يركز الأناركيون الشيوعييون (والأناركيون السنديكالييون) على مصلحة الفئة الاجتماعية ككل، يكون المنفعيون في مكان ما بينهما. في المجتمع الأناركي المثالي، يتأمل تلبية احتياجات المجتمع ككل بطريقة عادلة دون المساس اللا مبرر بحرية الإرادة وتقرير المصير من قبل الأفراد.
مناقشة أخرى داخل الحركة الأناركية تتعلق بقضايا البيئة والتكنولوجيا
تشير الأناركية الكلاسيكية إلى تشابهاً مع مفاهيم الماركسية التقليدية لقيمة العلم والعقلانية، والمبدأ القائل أن التقدم التكنولوجي يفيد المجتمع عموما. يعتقد الكثير من الأناركيين الحديثين أن التكنولوجيا في حد ذاتها لا جيدة ولا شريرة، ولكن يجب أالتدقيق بها وتطبيقها بطريقة مسؤولة اجتماعيا من أجل تقديم خدمة أفضل لأولئك الذين يستخدمونها، وتتأثر بها. آخرون أناركييون معاصرون لديها تكنولوجيا مضادة، منظور وسطي بيئي (الأكثر تطرفا للبدائية و اللاضية الجدد)، ويعتقدون أن المجتمع الأناركي يمكن تحقيقه من خلال التخلي عن التقدم التكنولوجي والعودة أكثر إلى البدائية، متموضعاً ومتناغم بيئياً لطريقة الحياة.
إن مسألة القومية مهمة أيضاً. بصفة عامة، يدعو الأناركيون إلى فكرة الأممية (أو بالأحرى، اللاوطنية) وتصوير مظاهر القومية والوطنية كمحاولة تقوم بها الدولة لزيادة قوتها من خلال تشجيع الانقسامات المصطنعة بين الناس. الدولة القومية هي بنية تخدم مصالح النخب المختلفة، في حين أن طبقات السكان الأدنى لا تزال في ظروف يرثى لها كما هو الحال في جميع أنحاء العالم. على الرغم من هذا، فإن بعض الأناركيين يحافظون على دعم النضالات التحررية الوطنية (مثلا الجهود التي يبذلها الفلسطينيون في منطقة الشرق الأوسط، القوميون السود في الولايات المتحدة، والشعوب الأصلية المظلومة في كل مكان) معتقدين بأن الدول الصغيرة المستقلة، وإن كانت استبدادية، هي أفضل من الإمبراطوريات الاستغلالية.
التيارات داخل الحركة الأناركية الحديثة
إن "الحركة الأناركية" في يومنا هذا ينظر إليها بشكل أكثر دقة باعتبارها مجموعة من الحركات المختلفة ذات العديد من المظاهر السياسية والفلسفية المشتركة. بناء عليه، وأحيانا بشكل متباين للمبادئ الأناركية الكلاسيكية، نرى عدة مجموعات تقوم بتوسيع نطاق الأناركية المعاصرة، وبإعادة تعريف المفاهيم التقليدية للأناركية.
إن الأناركية النسوية تخلط المثل العليا للانسوية والأناركية. تركز الأناركية النسوية على تحرير المرأة ودور البطريركية أكثر من الأناركية الكلاسيكية، ولكن ليس لدرجة استبعاد غيرها من أشكال القمع (كما فعلت بعض أنواع الحركات النسوية الأخرى). لا تعتبر كل النساء الأناركيات أنفسهم أناركية نسوية، حيث لا يجب على الأناركية النسوية أن تكون انثى بالتحديد- إلى حدٍ كبير هناك تمييز بين كيف أن "محور المرأة " يبنى على القيم من جهة والتشديد على جوانب الهيمنة من جهة أخرى. كما هو الحال مع العديد من الحركات السياسية في يومنا هذا، حيث أن مسألة الانفصال بين الجنسين لا تزال دون حل. من جهة، إن الاستمرار ضمن الحركة الأناركية في ظل الانقسامات المصطنعة بين الجنسين والتي فرضت من قبل النظام الاجتماعي الهرمي والذكوري تكون معادية لخلق مساواة حقيقية، وإلى كسر الحواجز التي يأمل الأناركيون في تحقيقه. من جهة أخرى، تشعر العديد من النساء بضرورة الحفاظ على مساحة للمرأة داخل الحركة التي كان عادة ما يسيطر عليها الذكور، وتعتقد أنه يجب الإعتراف بشرعية قضايا المرأة وإدماجها في الفلسفة الأناركية قبل التمكن من تحقيق الوحدة الوطنية. عموما ترفض الأناركية النسوية حلول الدولتية لمشاكل المرأة (مثل الرقابة على المواد الإباحية في محاولة للحد من العنف ضد المرأة) لصالح التمكين الذاتي والعمل المباشر. يمكن وصف تنظيم الأناركية النسوية بالتركيز على اللامركزية، العمل واتخاذ القرارات على مستوى القاعدة الشعبية. عموما تعتقد الأناركية النسوية أن أفضل طريقة لتحقيق إمكانات الإنسان تكون عن طريق تجاوز الأدوار التقليدية للجنسين، وتشجيع تطوير "ذكورية" مفيدة وصفات "أنثوية" في جميع الناس، والمساواة في كل العلاقات.
يركز العديد من الأناركيين الحديثين على تطبيق المثل العليا لحرية الإرادة وتقرير المصير على حياتهم الشخصية. ضمن هذا التوجه هناك تشديد على قبول خيارات عدة في مجال الجنس، والأسرة، والعلاقات بين الأشخاص. ينبغي أن تقوم العلاقات على الاختيار الحر، وموافقة جميع الأفراد المعنيين، وليس بتكليف من القيود الحكومية أو الدينية أو الاجتماعية. هناك العديد من االشاذين الأناركيين- لواط، سحاق، مخنثين، ولا سيما المخنثين- تعزيز الأناركية لانهيار خطط التصنيف التقليدية تبدو ذات أهمية خاصة لأولئك الذين مع المنظمات غير التقليدية و / أو المهمشة للهويات الجنسية والجنس. كما هو الحال مع الحركات النسائية تحتضن بعض الجماعات الشاذة (لواط/ سحاق) للمبادئ المعادية للاستبدادية والعمل المباشر (على سبيل المثال، نشطاء الايدز الذين ينظمون برامج تبادل الإبر والنوادي التي تشتري ادارة الأغذية والأدوية الأميركية). مع الاعتراف بأن الوصايا التقليدية مثل الزواج، الأسرة الأبوية، والاستنساخ القسري هي لخدمة مصالح من هم في مواقع الحكم والسلطة، يؤكد الأناركيون على استكشاف الإبداع، وبدائل العلاقة الطوعية مثل زواج غير الأحادي، الأسر الممتدة، وطائفية تربية الأطفال، بالإضافة إلى الخيارات التقليدية الأكثر شيوعا. يريد الأناركيون عموما الحصول على حكومة خارجة عن أعمال تصديق العلاقات الشخصية، بدلا من التوسع في تصديق علاقات اثلي الجنس. عادة يعارض الأناركيون الشاذون الجهود الرامية إلى زيادة وجود مثلي الجنس في المؤسسات القمعية مثل الجيش.
على نقيض التزام الأناركية الكلاسيكية للإلحاد (إلى حد كبير استجابة لتأثير سلبي للمؤسسات الدينية التقليدية السلطوية)، يؤكد العديد من الأناركيين الحديثين على القيم الروحية (في كلا الوثنية الجدد المتنوعة واللاهوتي المتحرر داخل الديانات التقليدية). وهذا يعكس الاعتقاد بأن تحقيق الحد الأقصى من الإمكانات البشرية يتطلب اعترافا في الجانب الروحي والجاتب المتسامي لشخصية الإنسان وثقافته فضلا عن عقلانيته. في مجال الأخلاق، يعتمد الأناركيون على الشخصية المسؤولة والمهتمة بالآخرين بدلا من التركيز على التصريحات للسلطات القانونية أو الأخلاقية. عموما يؤكد الأناركيون الروحانيون على الترابط بين جميع أشكال الحياة، وعادة تتزامن معتقداتهم مع اولئك الموجهين ايكولوجياً، الأناركيون المهتمون بالطبيعة. حتى الآن لا يزال هناك عنصر الحادي جوهري بين الأناركيون الذين يعتقدون أن فكرة "القدسية" والاعتماد على "النظام العالي" لتعزيز المفاهيم الهرمية التقليدية معادية لتحقيق الحرية الإنسانية الكاملة.
إن المثل الأناركية غالبا ما تتبنى من قبل شباب بغاء، أصحاب الفن البديل، الهذيان "الطفيليين" وثقافات طلبة راديكاليين. يحاول هؤلاء الشباب الهروب من الظلم والإغتراب في المجتمع الاستهلاكي السائد من خلال تشكيل جماعات مقاومة على أساس أن العمل المباشر وسيلة لتحقيق الاعتماد على الذات مثل العيش الجماعي، الخضوع، محلات معلوماتية وخلق بدائل اقتصادية مثل تعاونيات مستقلة غذائية، إنتاج وتوزيع الموسيقى غير التجارية. في حين أن هؤلاء الشباب يقبلون العديد من المعتقدات الكلاسيكية الأناركية (وإن لم يكن عادة تحت هذه التسمية)، فإنهم عادة ما يكونوا أكثر اهتماما بتطبيق مبادئ مكافحة الاستبداد وتقرير المصير بطريقة عملية لممارسة المقاومة وحياتهم اليومية. مع ذلك، يتجنب بعض الأناركيون المعاصرون "الحياة النمطية"، وبدلا من ذلك يركزوا على بناء مزيد من المجموعات رسمية وشبكات التي يمكن أن تنظم تغيير اجتماعي أوسع.
يرتبط الأناركيون بنسق واسع من وسائل النشر، إن كانت صحف غير رسمية أو قانونية وناشري الكتب ذو تاريخ طويل. يستخدم الأناركيون الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصالات الالكترونية على نحو متزايد. كثيراً ما وصف الإنترنت بأنه مثالاً للفوضى، وبالفعل نمى وازدهر مع غياب سلطة الحكومة المركزية. توفر الاتصالات الالكترونية وسيلة لتجاوز الحدود الوطنية، ويمكن التقليل من أهمية الحواجز الثقافية كما العرق والجنس أيضاً. مع ذلك، هناك خطر واضح على أن زيادة الاعتماد على الاتصالات الإلكترونية من شأنه أن يعزز الحواجز الاقتصادية، وخلق مجتمع من "يملكون" المعلومات ومن "لا يملكون". استخدم الأناركيون الاتصالات الالكترونية لوضع الخطط، نشر الأخبار الهامة، تبادل المعلومات، هناك لوائح بريدية ومجموعات من أعضاء مكرسين لمكافحة اللاسلطويين والأناركيون، فضلا عن مشاريع طموحة مثل أرشيف الصحافة الالكترونية الشجاعة. بوضوح تخاف الحكومات من حرية الانترنت، وتزيد جهودها لوقف التدفق الحر للمعلومات (تحت ستار مكافحة الفحش ومكافحة الارهاب). كما أن هناك أناركييون آخرون يعارضون الاتصالات الإلكترونية، سواء لأنهم يرفضون "الوساطة" أي "التفاعل الذي ليس وجها لوجه"، وبسبب الآثار البيئية الضارة للتكنولوجيا.
استنتاج
باختصار، الأناركية هي فلسفة معرفة متنوعة على نطاق واسع تم اعتمادها بشكل أو بآخر من قبل مجموعة واسعة من الأفراد والجماعات، كثير منهم لا يصرحوا بتسمية أنفسهم بـ "أناركيين". تتعلق الأناركية بجميع أوجه الوجود. في التأكيد على الحرية، تقرير المصير، المسؤولية الشخصية، العمل المباشر، خلق البدائل، والتعاون الطوعى، لدى الأناركية الرؤية والمرونة لتوفير وسيلة ناجعة لتغيير حياة المرء، في حين أنها تعمل من أجل تغيير اجتماعي جذري ودائم الذي سيغير العالم.
ليز هايليمان (1988)
تعريب: جوزيف أيوب
.... تابع قراءة التدوينة

!لماذا خلق الله الدنيا





من الميلاد الى الموت والإنسان فى صراع مادته وترابه يشدانه إلى تحت ، وروحة تشدّه الى فوق . صِراع بين  عدم .. ووجود 
والعدم ليس مجرد خواء.. أو لا شئ، وانما العدم قوة سالبة بمثل ما أن الوجود قوة موجبة .
المرض والشيب والشيخوخة والذبول والهزال قوى عديمة سالبة ، غلبت على الجسم . فجعلته مريضاُ ذابلا هزيلا ..
فإذا غلبت هذه القوى العدمية على النفس ، جعلت المزاج النفسى مُتشائماً يائساً قلقا سوداوياً كئيباً .. فإذا غلبت على القلب نزلت به الى درك الحقد والأنانية والكبر والغرور والنفاق والشهوة .
فإذا غلبت على العقل أظلمته بغواشى الجهالة والغباء والبلادة .
فإذا أغشيت البصيرة ألقت بها فى مهاوى الكفر والشرك والظلم . وللعدم جيوش وفرسان .. وله جنود مجنده . .  السوس الذى ينخر .. والبكتيريا التى تحلل وتهدم .. الفيروسات التى تنشر الفوضى والتلف .. مروجوا المخدرات ، ناشرو الفتن ، وتجار الشهوات ..
التتار ، الهكسوس ، والوندال ، الذين هدموا الحضارات .
كل هؤلاء جنود العدم وفرسانه !
ومن وراء الغيب .. إبليس وذريته ، أكبر قوة سالبه عدمية .. شعاره ورايته التى يلوح بها .. أنا .. أنا .. أنا خير منه ..
وهو يجرى فينا مجرى الدم، بمقدار ما يقول الواحد فينا .. أنا .. أنا .. أنا خير منه 
ولكن الله لم يتركنا نهباً للقوى العدمية السالبة وإنما أعطانا أعلى شحنة موجبة حينما نفخ فينا من روحه .
والله هو الفاعل الإيجابى الخالص نفخته روح ، وكلمته روح ، وحينما تلابس روحة المادة ، تخلع عليها الصور والنظام والحياة والحركه والشباب والصحة والعقل والوعى والفهم ، والسجايا والفضائل .
والحياة بالروح ، هى الحياة الحقّة بلا مرض وبلا موت ، وبلا شيخوخة .
وغلبة الروح على النفس ، تنزع بها الكمال والنقاء والطهر .
وغلبة الروح على العقل تنزع به إلى الإدراك ، والعلم والمعرفة
وغلبة الروح على الجسد تداوى أسقامه .. وتشفى أمراضه .
ولعالم الروح جنوده المجنده من الملائكة مثلما لعالم الظلمة شياطينه . وقد أطلق الله القوى السالبة العدمية ، تنازع القوى الموجبة الوجودية بمشيئته وخطته .. وانفرد بالهيمنه لا ينازعه أحد فى ملكه .
وخلق النفس الإنسانية قابلة للانفعال بالقوتين السالبة .. والموجبة قابلة للانحدار الإبليسى أو التحليق الملائكى .. وجعلها مجال صِراع وحلبة قتال 
  (  لقد خلقنا الإنسان فى كبد  )
أى فى مكابدة.
ومن خلال هذا القتال ينكشف محتوى النفس ويتجلى سرها وتتقرر منزلتها ويظهر مرادها .. ويتأكد إنتماؤها .
وهذه هى الدنيا وحكمتها .
  ( الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا  )
الدنيا هى المناسبة .. هى المناسبة للتعرف .
هى سائل التحميض الذى يظهر الظل والنور فى الصور الفوتوغرافية . وهكذا تتفاضل النفوس وتتقرر مراتبها ودرجاتِها .
هى مناسبة للتعرف ، خلقها الله ليعطينا من فضله ومن عدله ، يحسب إستحقاقات يعلمها منذ الأزل ، ولا نعلمها نحن .
والدنيا هى حادثة إعلامنا وتعريفنا بأنفسنا .. وإعلام وتعريف كافة شهود الحدث من إنس وجن وملائكة وشياطين .
فلا تصح القضايا الا اذا تم إعلام جميع الأطراف .
وعلم الله لا يقوم حجة على خلقة إذا كان هؤلاء الخلق جاهلين .
فكان لابد من إعلام شامل كامل .
والدنيا هى الإعلام الشامل الكامل .
وهى ملف الأحوال والأعمال والنوايا والخفايا لكل نفس .
ثم بعد ذلك يآتى النشر والحشر والجمع والفصل .
وقد رتب الله كل هذا من أجل ان يعطى ويهب ويمنح .. فما خلقنا إلا ليعطينا .
لم يخلقنا لعذاب .
وما أنزل علينا الشرائع والتكاليف إلا ليسعدنا .
 ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقىّ  )
وفى سنتة يعطى كل مخلوق ما يحب .
الذى يحب الدنيا .. يعطيه من الدنيا ، والذى يحب الآخرة يعطيه من الآخرة .. والذى يعشق الظلمة ، يتركه للظلمة .
ومن النفوس ما لا تلذ لها إلا حياة الاشتعال والاحتراق والشهوات ..  تلك النفوس كانت بضعة من النار فإنتهت الى النار بحكم المشاكلة والمجانسة ولم يصح لها مقام إلا فيها ولم يكن لها حظ من جنة لأنها أصلا لا تحب الجنة .. إنما يعطى الله كل نفس ما تحب .
 ( وآتاكم من كل ما سألتموه  )
( كلا نُمِد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ..
فقد جعل الله من نفسة وكيلا لنا ينفذ لنا رغباتنا .. ثم تكون كل نفس بعد ذلك ما كسبت رهينة .
وإذا كان الله يقول :
 ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون  )
فليس ذلك عن إحتياج منه لعبادتنا ، وإنما لآحتياجنا نحن لعبادته .. ولأن العبادة هى الحبل السرى الذى يربطنا به والذى عن طريقه يأتى المدد والعطاء مثلما يآتى الغذاء للجنين من الام عن طريق الحبل السرى ، فإذا انقطع هذا الحبل انقطع عن الجنين غذاؤه .. وبالمثل اذا قطعت هذا الحبل بينك وبين الله ، فقد حرمت نفسك من شريان المدد والعطاء ولم يحرمك ربك بل أنت  الذى حرمت نفسك وقطعت رحمك .
وإنما الله رحمة خالصة ، وعطاء خالص ، وقرب خالص
وإنما الجفوة والبعد والقطيعة منا .
وما الدنيا بكل ما فيها الا عطاء عاجل مؤقت يعقبه فى الآخرة عطاء آجل ذائم فما خلقنا الله إلا ليعطينا فى العاجل وفى الآجل .
ألم ينفخ فينا روحة ويخلع علينا أسماءه ويسجد لنا ملائكته ويسخر لنا سماواته ويفتح لنا كنوز أرزاقه ويطعمنا كفارا ومؤمنين ثم بعد ذلك يعدنا بميراث الخلود ، فماذا بعد ذلك 
وهل فى الامكان عطاء أكثر ؟
لو كان هناك أكثر فإنه هو ايضا الوحيد القادر على اعطائه .. فهو وحده معطى الكثير والأكثر والكوثر 
فهو يقول لعبده :
 ( إنا أعطيناك الكوثر )
ومن أجل ذلك خلقه .
فما خلق الا ليعطى وما خلق الا ليرحم ..
ذلكم الله ربكم لا يكافئه ثناء ولا يتناهى الى قدره حمد .
لا آله إلا هو له الحمد فى الأولى والآخرة .

من كتاب ( هل هو عصر الجنون ) لـ : مصطفى محمود .
.... تابع قراءة التدوينة

كن مع الثورة


الكلمة ماليه السجون
والثورة .. أعقل جنون
ع الندل والملعون
من الإله والخلق
اعلا يا صوت الحق
أصرخ بقولة  لأ
يا فجر ما تشقشق
صحى ضحايا الآمس
نور ظلام اليأس
يلمس جنونك لمس
طعم البراح والبوح
والحلم فين ما يروح
راجع .. بيتحقق !
.... تابع قراءة التدوينة

كتاب: ألف باء الشيوعية (بوخارين، وبريوبراجنسكي) - الفصل الثالث: الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا



مميزات النظام الشيوعي. الإنتاج في ظل الشيوعية.

رأينا كيف أن انهيار النظام الرأسمالي أمر حتمي. وها هو يتفكك أمام أعيننا. إنه يتفكك لأنه يعاني من تناقضين أساسين: فوضى الإنتاج وما تؤدي إليه من منافسة وأزمات وحروب، من جهة، والطابع الطبقي للمجتمع الذي يدفع حتما بقسم من المجتمع إلى العداء المميت للقسم الآخر (الحرب الطبقية) من جهة ثانية. إن المجتمع الرأسمالي أشبه ما يكون بآلة لم يحسن صنعها، يتدخل جزء منها باستمرار بحركة الأجزاء الأخرى. (انظر المادة بعنوان «تناقضان أساسيان في النظام الرأسمالي»). لذا كان حتميا أن تخرب هذه الآلة وتتفكك عاجلا أم آجلا.

وبديهي أن يكون المجتمع الجديد مبنيا على أسس أرسخ من الأسس التي قامت عليها الرأسمالية. وما أن يؤدي هذان التناقضان الأساسيان إلى تدمير النظام الرأسمالي، حتى يتوجب قيام مجتمع جديد على أنقاض هذا النظام يكون متحررا من تناقضاته. هذا يعني أن نمط الإنتاج الشيوعي يجب أن يتميز أولا بأول بأنه مجتمع منظم، أي مجتمع متحرر من فوضى الإنتاج والمنافسة بين الرأسماليين الأفراد، كما هو متحرر من الأزمات. ثانيا. يجب على المجتمع الشيوعي أن يكون مجتمعا بدون طبقات، أي أنه مجتمع ليس منقسما إلى شقين متناحرين حيث تقوم طبقة باستغلال الطبقة الأخرى. وأن مجتمعا تزول فيه الطبقات ويسوده تنظيم الإنتاج هو مجتمع رفاقي، مجتمع شيوعي يرتكز إلى العمل.

لننظر بمزيد من الدقة إلى هذا المجتمع.

إن أساس المجتمع الشيوعي هو الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج والتوزيع. الآلات، قاطرات سكة الحديد، السفن التجارية، أبنية المصانع، المستودعات، أهراءات الحبوب، المناجم، البرق والهاتف، الأرض، الماشية، الأحصنة يجب أن تكون كلها بتصرف المجتمع. المجتمع ككل يجب أن يسيطر على كل وسائل الإنتاج هذه، بدلا من أن تكون تحت سيطرة رأسماليين أفراد أو «تروستات» رأسمالية. ما الذي نعنيه ب«المجتمع ككل»؟ نعني أن الملكية والسيطرة لن تعودا امتيازا لطبقة واحدة، وإنما تصبحا بتصرف جميع أفراد المجتمع. وفي ظروف كهذه، يتحول المجتمع إلى ورشة عمل كبيرة للإنتاج المشترك. ولا يجوز للإنتاج أن يصاب بالتفكك أو بالفوضى. ففي نظام اجتماعي كهذا، يكون الإنتاج منظما. فالمشروع الاقتصادي لن ينافس المشروع الاقتصادي، وإنما تتحول المصانع والمشاغل والمناجم ومؤسسات الإنتاج الأخرى إلى فروع في ورشة شعبية واسعة تشمل اقتصاد الإنتاج الوطني بمجمله. ومن البديهي أن مثل هذا التنظيم الشامل يفترض وجود خطة عامة للإنتاج. فإذا ما تجمعت كل المصانع والمشاغل بالإضافة للإنتاج الزراعي برمته لتكوين مشروع تعاوني جبار، فبديهي أن يكون كل شيء محسوب له الحسبان في مثل هذا المشروع. يجب أن نعلم سلفا كمية العمل المطلوب تعيينها لمختلف فروع الصناعة، وما هي المنتجات المطلوبة وما هي الكمية الواجب إنتاجها من كل منها، ومن أين وكيف نحصل على الآلات. إن هذه التفاصيل، وسواها، يجب التفكير بها سلفا بأكبر قدر ممكن من الدقة على أقل تقدير. ويجب توجيه العمل بمقتضى حساباتنا هذه. هكذا يتم تنظيم الإنتاج الشيوعي. فبدون خطة شاملة، وبدون نظام توجيه عام، وبدون محاسبة ورصد دقيقين، لا يكون هناك تنظيم. هذا هو نوع الخطة الذي يحتاجها النظام الشيوعي.

على أن مجرد التنظيم لا يكفي بحد ذاته. فجوهر المسألة هو في أن يكون التنظيم تنظيما تعاونيا لجميع أفراد المجتمع. وبالإضافة لمسألة التنظيم هذه، يتميز النظام الشيوعي بكونه يقضي على الاستغلال ويلغي قسمة المجتمع إلى طبقات. يمكن تصور تنظيم الإنتاج على النحو التالي: مجموعة من الرأسماليين تسيطر على كل شيء، وهكذا يكون الإنتاج منظما بحيث الرأسمالي لا ينافس الرأسمالي، وإنما يتعاونان على استخراج فضل القيمة من العمال بعد تحويلهم عمليا إلى عبيد أرقاء. هذا التنظيم متوافر، لكنه مترافق مع استغلال طبقة لأخرى.وهنا نجد أن وسائل الإنتاج مملوكة جماعيا، لكنها ملكية جماعية لطبقة واحدة فقط هي الطبقة المستغِلة. وهذا أمر مختلف كل الاختلاف عن الشيوعية، مع أنه يتسم بتنظيم الإنتاج. إن مثل هذا التنظيم للمجتمع يزيل واحدا من التناقضين الأساسين: فوضى الإنتاج. لكنه يعزز، في المقابل، التناقض الأساسي الآخر في المجتمع الرأسمالي –قسمة المجتمع إلى معسكرين متناحرين. أي أنه يزيد من حدة الحرب الطبقية. ينجح مثل هذا المجتمع في تنظيم جانب واحد من جانبيه الاثنين. أما جانبه الآخر، جانب بنيته الطبقية، فإنه مهدد دوما بالانفجار. إن المجتمع الشيوعي لا يكتفي بتنظيم الإنتاج.

إنه يحرر الإنسان من اضطهاد الإنسان أيضا. أي أنه مجتمع يسود التنظيم كل مرافقه.

كذلك فإن الطابع التعاوني للإنتاج الشيوعي يظهر في أدق تفاصيل التنظيم. في المجتمع الشيوعي، مثلا، لن نلقى مديرين يتولون إدارة المصانع باستمرار، ولن نلقى أناسا يؤدون العمل ذاته طوال حياتهم. في ظل الرأسمالية، إذا كان المرء صانع أحذية، فإنه يقضي حياته كلها في صنع الأحذية. وإذا كان طباخا، يقضي كل حياته في مصنع قوالب الحلوى. وإذا كان مديرا لمصنع، يصرف أيامه في إصدار الأوامر وفي العمل الإداري. أما إذا كان عاملا، فإنه يقضي العمر كله يطيع الأوامر. المجتمع الشيوعي لا يعرف أيا من هذه الأمور. ففي ظل الشيوعية، يتلقى البشر ثقافة شاملة ومتعددة الجوانب، بحيث يسهل عليهم العمل في مختلف فروع الإنتاج: اليوم أعمل كمدير، وأحسب كم يجب إنتاجه من الأحذية وقوالب الحلوى خلال الشهر القادم، وغدا سأعمل في مصنع للصابون، وربما عملت الشهر القادم في تنظيف الثياب، والشهر الذي يليه في محطة توليد الكهرباء. هذا ما يمكن تحقيقه عندما يتوافر لأفراد المجتمع التعليم اللائق.

التوزيع في المجتمع الشيوعي
إن نمط الإنتاج الشيوعي يفترض تسخير الإنتاج لسد الحاجات المباشرة لا تسخيره لمتطلبات السوق. في ظل الشيوعية، لا يتم الإنتاج على يد صانع واحد أو فلاح واحد، وإنما يتولى الإنتاج تعاونية ضخمة. وبنتيجة هذا التغير، ينتج المجتمع منتجات لا سلعا. هنا تزول مبادلة المنتجات بعضها ببعض، كما تزول عملية البيع والشراء. بكل بساطة، تخزن هذه المنتجات في المستودعات الجماعية يجري تسليمها للذين يحتاجونها. وفي ظروف كهذه، تزول الحاجة إلى النقود. وقد يسأل البعض: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ وماذا لو أدى ذلك إلى حصول البعض على ما هو دون حاجته والبعض الآخر على ما هو فائض عنها؟ وماذا تكون الجدوى من اعتماد هذه الطريق في التوزيع؟»

الجواب هو كالآتي: في البدء، سوف تضطر لوضع تشريعات خاصة لن تلغي قبل عشرين أو ثلاثين سنة.

وبعض المنتجات لن تعطي إلا للذين يملكون إشارات خاصة على بطاقات عملهم. ثم نتخلى عن كل هذه التشريعات عندما يترسخ المجتمع الشيوعي ويكتمل نموه. فتصبح كل المنتجات متوافرة بكميات إضافية، ونكون قد شفينا من جراحنا الحالية، فيمسي بامكان كل منا أن يحصل على ما يريد حسب حاجته إليه. «ولكن، ألن يسعى الناس إلى الحصول على ما يفيض عن حاجاتهم؟» لا، بالتأكيد. في الوقت الحاضر، لا يفكر أي منا، إذا أراد احتلال مقعد في القطار، أن يشتري ثلاث بطاقات سفر، ويبقى مقعدين خاليين إلى جانب. هكذا سيكون الحال بالنسبة لجميع المنتجات. فالمرء يستحصل من المستودع الجماعي على حاجته، لا أكثر ولا أقل. ولن يكون هنالك مصلحة لأحد بأن يأخذ ما يزيد عن حاجته لبيع الفائض لآخر، لأن المجتمع يكون قد سد حاجات هذا الآخر على كل حال. إذ ذاك تفقد العملة قيمتها.

نعني بذلك كله أن المنتجات سوف توزع، في المراحل الأولى من المجتمع الشيوعي، حسب كمية العمل المبذولة. ثم توزع، في المراحل اللاحقة، حسب حاجة الرفاق إليها.

الإدارة في النظام الشيوعي
المجتمع الشيوعي مجتمع بلا طبقات. وهذا يعني أن المجتمع الشيوعي هو أيضا مجتمع بلا دولة. لقد بينا سابقا أن الدولة أن الدولة هي التنظيم الطبقي للحكام. والدولة دائما موجهة من قبل طبقة ضد طبقة أخرى. الدولة البرجوازية موجهة ضد البروليتاريا، بينما الدولة البروليتارية موجهة ضد البرجوازية. في المجتمع الشيوعي لا يوجد ملاك أرض ورأسماليون ولا عمال مأجورون –يوجد بشر فقط، يوجد رفاق. وإذا زالت الطبقات، يزول معها الصراع الطبقي، كما تزول التنظيمات الطبقية. وبالتالي، فهذا يعني أن الدولة قد زالت هي أيضا. فلم يعد ثمة من حاجة لقمع أحد، كما لم يعد يوجد من يحتاج إلى ممارسة القمع.

وقد يسأل سائل: ولكن كيف يمكن تسيير هذا التنظيم الاجتماعي الضخم بدون إدارة؟ من هو الذي سيضع خطط الإنتاج الاجتماعي؟ من هو الذي سيوزع قوة العمل؟ من سيمسك حسابات الدخل والإنفاق الاجتماعيين؟ بكلمة: من الذي سيشرف على الوضع كله؟

الجواب على كل هذه الأسئلة ليس صعبا. المهام الإدارية المباشرة ستوكل طبعا لمكاتب المحاسبة والإحصاء، التي سوف تتولى يوميا حساب الإنتاج بكامل متطلباته، وتقرر أين يرسل العمال، ومن يؤتي بهم، كما تقرر كمية العمل المطلوبة. وسوف يعمل الجميع وفق إرشادات هذه المكاتب الإحصائية بالقدر الذي تعلموا فيه العمل الجماعي منذ نعومة أظافرهم، وطالما أنهم جميعا يدركون أن هذا العمل ضروري وأن الحياة تصبح أيسر عندما يتم كل شيء وفق خطة موضوعة سلفا وعندما يكون النظام المجتمعي مثل آلة أحسن تزييت أجزائها. ولا حاجة هنا لوزراء دولة وللشرطة والسجون، للقوانين والمراسيم، وما شابه. وكما في الفرقة الموسيقية يراقب العازفون عصا القائد ويعملون حسب حركاتها، كذلك هنا، فالجميع يطّلع على التقارير الإحصائية ويوجه جهده بناء عليها.

هذا يعني أن الدولة قد تلاشت. لا انقسام إلى مجموعات ولا طبقة تهيمن على باقي الطبقات. ثم أن الناس يتناوبون على العمل في مكاتب الإحصاء. وهكذا تزول البيرقراطية، أي تزول فئة الموظفين المحترفين الدائمين، فتتلاشى الدولة.

على أنها لن يتم إلا في ظل نظام شيوعي راسخ البنيان ومكتمل النمو، ولن يتحقق فورا بعد إحراز النصر. إن الطبقة العاملة مضطرة للنضال ضد أعدائها لفترة طويلة، وخاصة ضد ترسبات الماضي كالكسل والجريمة والعجرفة. هذه أمراض يجب القضاء عليها. ولا بد من تعاقب جيلين أو ثلاثة من البشر في ظل الظروف الجديدة قبل زوال الحاجة إلى القوانين والعقوبات وإلى استخدام الأساليب القمعية من قبل الدولة العمالية. لا بد من انقضاء جيلين أو ثلاثة قبل أن تزول كل مخلفات الماضي الرأسمالي. ومع أن الدولة العمالية تبقى ضرورية طوال هذه المرحلة الانتقالية فلا بد أن تتلاشى سلطة الدولة البروليتارية في النظام الشيوعي المكتمل النمو عند زوال مخلفات المجتمع الرأسمالي. وتندمج البروليتاريا بفئات الشعب الأخرى، لأن الجميع سوف يساهم تدريجيا في العمل المشترك. وفي غضون عقود من الزمن يولد عالم جديد وشعوب جديدة لها عادات جديدة.

تطور قوى الإنتاج في النظام الشيوعي (فوائد الشيوعية)
ما أن يحرز النصر وتلتئم الجراح، حتى يبدأ النظام الشيوعي بالتنمية السريعة لقوى الإنتاج. وتعود هذه التنمية السريعة للأسباب التالية:

أولا، إن قيام الشيوعية يحرر كمية ضخمة من الطاقة البشرية كانت سابقا مهدورة في الصراع الطبقي. لنفكر بعض الشيء بضخامة الهدر للطاقة العصبية والجهد والعمل الناتج عن الصراعات السياسية، والاضرابات والتمردات وقمعها والمحاكمات ونشاط البوليس وسلطة الدولة والجهود اليومية التي تبذلها الطبقات المتناحرة. إن الصراع الطبقي يبتلع الآن كميات من النشاط والامكانات المادية. في النظام الجديد، سوف تتحرر كل هذه الطاقات، لأن النزاع بين البشر سوف يزول. ويجري تكريس هذه الطاقات المحررة لتنمية الإنتاج.

ثانيا، ينقذ النظام الشيوعي الطاقات والامكانات المادية التي تفني أو تهدر حاليا في المنافسة والأزمات والحروب. يكفي أن نفكر بما يهدر أيام الحروب، لندرك مدى ضخامة هذه الطاقات والامكانات. كم يخسر المجتمع من صراع البائعين فيما بينهم وصراعهم مع المشترين. وكم من الخراب السخيف ينجم عن الأزمات التجارية. وكم من الهدر تؤدي إليه الفوضى المسيطرة على الإنتاج. إن المجتمع الشيوعي سوف يوفر كل هذه الطاقات التي تهدر حاليا.

ثالثا، إن تنظيم الصناعة وفق خطة هادفة سوف يوفر علينا الهدر غير المبرر، لأن الإنتاج الكبير هو دائما أكثر توفيرا من الإنتاج الصغير. وليس هذا وحسب، بل أن تنظيم الصناعة على هذا النحو يسمح أيضا بتحسين الإنتاج من الناحية التقنية، فيتم العمل في مصانع كبيرة تستخدم أكثر الآلات تطورا. هناك قيود على استخدام الآلات الجديدة في ظل الرأسمالية. قرب العمل الرأسمالي لا يلجأ إلى الآلات الجديدة إلا عندما يعجز عن الحصول على قدر كاف من الأيدي العاملة الرخيصة. وعندما ينجح في الحصول على ما يحتاجه من أيد عاملة رخيصة، يمتنع عن إدخال الآلات الجديدة، لأنه يستطيع تحقيق الأرباح الطائلة بدونها. فالرأسمالي يلجأ إلى الآلات فقط عندما تؤدي الآلات إلى تخفيض نفقاته بالنسبة للعمل المرتفع الأجور. على أن العمل رخيص عادة في ظل الرأسمالية. ومن هنا فإن الظروف السيئة التي تسود أوساط الطبقة العاملة تشكل عائقا أمام تحسين التقنية الإنتاجية. وتبرز هذه الصلة السببية بأوضح ما تبرز في الزراعة. هنا كانت قوة العمل دائما رخيصة، ولهذا السبب كان إدخال الآلات في الزراعة بطيئا جدا. المجتمع الشيوعي ليس معنيا بالربح، وإنما هو معني بالعمال. لذا فهو يتبنى فورا كل تقدم تقني. ويكسر القيود التي فرضتها الرأسمالية عليه. وبالطبع يستمر التقدم التقني في المجتمع الشيوعي، لأن الجميع سوف يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء –الذين كانوا يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء- الذين كانوا يقضون كضحايا للعوز في ظل الرأسمالية- سوف يتمكنون من توظيف كفاءاتهم إلى أقصى حد.

وسوف يقضي المجتمع الشيوعي على الطفيلية أيضا. فلا مجال فيه للذين لا يبذلون أي جهد ويعيشون على حساب الآخرين. والذي كان المجتمع الرأسمالي يهدره على الشراهة والعربدة والحياة الصاخبة سوف يكرس لمقتضيات الإنتاج. وسوف يختفي الرأسماليون مع بطانتهم والمتعيشين عليهم (من رجال دين ومومسات وغيرهم)، ويوظف جميع أفراد المجتمع جهودهم في العمل المنتج.

ثم أن نمط الإنتاج الشيوعي سوف يؤدي إلى تنمية القوى الإنتاجية. وكنتيجة لذلك، لن يضطر العمل إلى بذل كمية العمل التي كان يبذلها في السابق. وهكذا تتقلص ساعات العمل اليومية باستمرار ويتحرر البشر باطراد من القيود التي تفرضها عليهم الطبيعة. وعندما يصرف الإنسان عددا متناقضا من الساعات على غذائه وكسائه، يستطيع تخصيص المزيد من الوقت لتنمية ملكاته الذهنية. بذلك تصل الثقافة الإنسانية إلى قمم لم تعرفها من قبل. وتنتفي عنها صيغة الثقافة الطبقية، لتتحول إلى ثقافة إنسانية أصيلة. ومع زوال اضطهاد الإنسان للإنسان، تزول هيمنة الطبيعة على البشر، ويصبح بمقدور النساء والرجال أن يعيشوا حياة جديرة ببشر يملكون القدرة على التفكير بدلا من حياة البهائم التي كانوا يعيشونها في السابق.

دكتاتورية البروليتاريا
إن البروليتاريا يجب أن تمركز كل السلطات بيدها لكي تتمكن من تحقيق النظام الشيوعي. وهي لا تستطيع نسف العالم القديم إلا إذا كانت السلطة بيدها، إلا إذا تحولت إلى طبقة حاكمة لفترة من الزمن. ومن الواضح أن البرجوازية لن تتخلى عن موقعها دون صراع. فالشيوعية بالنسبة إليها تعني خسارتها لسلطتها، وفقدان «حريتها» في امتصاص دم العمال وعرقهم، وحرمانها من تحصيل الإيجارات وجني الفوائد والأرباح. وبالتالي، فلا بد للمستغِلين من أن يقاوموا بضراوة ثورة البروليتاريا الشيوعية والتحويل الشيوعي للمجتمع. من هنا، فإن أول مهمة تقع على عاتق الحكومة هي مهمة سحق هذه المعارضة دون هوادة. ولأن هذه المعارضة سوف تكون ضارية جدا وشرسة للغاية، فلا بد للسلطة العمالية، لا بد للحكم البروليتاري من أن يتخذ شكل الدكتاتورية. «الديكتاتورية» تعني أساليب حكم صارمة جدا، وتعني سحق الأعداء دون هوادة. ومن الواضح أنه لا يمكن الحديث عن «الحرية» للجميع في ظل أوضاع كهذه. إن ديكتاتورية البروليتاريا متعارضة مع منح الحرية للبرجوازية. والواقع أن هذا هو بالتحديد بسبب الحاجة إلى دكتاتورية البروليتاريا: لحرمان البرجوازية من الحرية، لتقييدها وشل نشاطها، لمنعها من مواصلة النضال ضد البروليتريا الثورية. وبالقدر الذي تكون فيه مقاومة البرجوازية ضارية، وحشدها لقواها مستميتا، وموقفها خطرا، بذاك القدر يجب أن تكون دكتاتورية البروليتاريا قاسية وحازمة. وفي الحالات القصوى، لا يجوز للحكومة العمالية أن تتردد في اللجوء إلى الإرهاب. ولن تبدأ دكتاتورية البروليتاريا بإرخاء قبضتها تدرجيا إلا بعد انتهاء عملية سحق المستغِلين، وشل مقاومتهم، وعندما يفقدون القدرة على الإساءة للطبقة العاملة. في تلك الأثناء تكون البرجوازية قد أخذت تندمج بالبروليتاريا شيئا فشيئا، وتتلاشى الدولة العمالية تدريجيا، ويتحول المجتمع كله إلى مجتمع شيوعي بلا طبقات.

في ظل المؤسسة المؤقتة التي نسميها بدكتاتورية البروليتاريا لن تكون وسائل الإنتاج، بحكم طبيعة هذه الدكتاتورية نفسها، ملكا للمجتمع ككل، وإنما فقط للبروليتاريا، ولجهاز الدولة التابع لها. وتحتكر البروليتاريا، أي أكثرية السكان، ملكية وسائل الإنتاج مؤقتا. هذا يعني أن دكتاتورية البروليتاريا لا تشتمل على الإنتاج الشيوعي الشامل. فقسمة المجتمع إلى طبقات لا زالت قائمة، كما لا يزال يوجد طبقة حاكمة (هي البروليتاريا) تحتكر ملكية كافة وسائل الإنتاج، وسلطة حكومية (السلطة البروليتارية) تتولى سحق أعدائها. ولكن مع شل مقاومة الرأسماليين وملاك الأرض وأصحاب المصارف والجنرالات والأساقفة السابقين، يبدأ نظام دكتاتورية البروليتارية بالتحول إلى نظام شيوعي، دونما حاجة لثورة تكون واسطة هذا التحول.

ودكتاتورية البروليتاريا ليست فقط أداة لسحق أعدائها، إنما هي أيضا وسيلة للتحويل الاقتصادي. يجب استبدال الملكية الفردية لوسائل الإنتاج بالملكية الجماعية. ويجب حرمان البرجوازية من وسائل الإنتاج والتبادل، أي تجب «مصادرة أملاكها». من يستطيع القيام بهذه المهمة؟ بالتأكيد، ما من فرد معزول يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة بمفرده حتى ولو كان ينتمي إلى أصل بروليتاري. فلو قيض لفرد معزول، أو حتى لمجموعات معزولة من الأفراد، الاضطلاع بهذه المهمة، لتحول الأمر إلى اقتسام المغانم، في أحسن الأحوال، أو لاعتبرناه مجرد عملية سرقة، في أسوأ الأحوال. لذا نفهم لماذا يجب أن تتولى قوة البرولتاريا المنظمة مصادرة أملاك البرجوازية. إن هذه القوة المنظمة هي التي تتخذ شكل دكتاتورية الدولة العمالية.

الاستيلاء على السلطة السياسية
تحقق البروليتاريا دكتاتوريتها بالاستيلاء على السلطة السياسية. ولكن ما الذي نعنيه بالاستيلاء على السلطة؟ يتصور الكثيرون أن انتزاع السلطة من يد البرجوازية أمر يسير، يتم بالسهولة التي تنقل فيها كرة من جيب إلى آخر. في البدء تكون السلطة بيد البرجوازية، ثم تطرد البروليتاريا البرجوازية من السلطة وتمسك بزمام الأمور بأيديها. القضية، بالنسبة إلى أصحاب هذه النظرة، ليست قضية بناء سلطة جديدة وإنما هي قضية الاستيلاء على سلطة قائمة.

إن مثل هذه الأفكار مغلوطة كليا، والقليل من التأمل يسمح لنا بتبيان مكمن الخطأ.

إن سلطة الدولة جهاز منظم. وسلطة الدولة البرجوازية جهاز برجوازي يتم فيه توزيع أدوار البشر بطريقة معينة. فعلى رأس الجيش يتربع الجنرالات (العقداء)، أبناء الطبقة الغنية. وعلى رأس الإدارة يتربع الوزراء، وهم أيضا أبناء الطبقة الغنية، وما إلى هنالك. عندما تناضل البروليتاريا من أجل استلام السلطة، ضد من يكون نضالها موجها؟ إنه موجه ضد هذا الجهاز البرجوازي بالدرجة الأولى. وفي معرض مفاضلتها لهذا الجهاز، يترب على البروليتاريا تسديد ضربات كفيلة بتحطيمه. ولكن طالما أن مكمن القوة الأساسي للحكومة هو الجيش، فإن تفتيت وتدمير الجيش البرجوازي هو الشرط الأول للانتصار على البرجوازية… إذا ظل الجيش المعادي سليما ومتماسكا، يصبح انتصار الثورة مستحيلا. ولكي يتحقق هذا الانتصار، لا بد من تفكك وانهيار جيش البرجوازية. لهذا السبب مثلا لم يكن الانتصار على النظام القيصري يعني أكثر من التدمير الجزئي للدولة القيصرية والتفكك النسبي للجيش. لكن انتصار ثورة أكتوبر كان المؤشر للإطاحة الكاملة والنهائية بجهاز الدولة التابع لـ«الحكومة المؤقتة» وحل جيش كرنسكي نهائيا.

وهكذا، فإن الثورة تدمر السلطة القديمة وتبني سلطة جديدة، سلطة مختلفة عن سابقاتها. ولا بد للسلطة الجديدة من استخدام بعض عناصر السلطة القديمة، لكنها تستخدم هذه العناصر بطريقة مختلفة عن ذي قبل.

ينجم عن ذلك أن الاستيلاء على السلطة ليس استيلاء على الجهاز القائم سلفا. وإنما يتطلب بناء جهاز جديد، جهاز أتت به الطبقة التي خرجت منتصرة من الصراع.

الحزب الشيوعي وطبقات المجتمع الرأسمالي
لكي تنتصر البروليتاريا في أي بلد من البلدان، لا بد لها من أي أن تكون متماسكة ومنظمة جيدا، ولا بد من أن يكون لها حزبها الشيوعي الذي رصد بدقة اتجاه تطور الرأسمالية، وفي الظرف الراهن وأحسن تفسيره واستوعب المصالح الحقيقية للطبقة العاملة إضافة إلى امتلاكه للقدرات اللازمة لرصّ الصفوف وقيادة النضال. إن الحزب لا يستطيع أن يجند جميع أفراد الطبقة التي يمثلها. لم يحصل ذلك في أي من زمان أو مكان، ولا بلغت طبقة من الطبقات المستوى الكامل من الوعي. إن الذين ينتظمون في حزب هم، على العموم، الأكثر تقدما من أبناء الطبقة، والأكثر إدراكا لمصالحهم الطبقية. إنهم الأكثر حيوية وجرأة وصلابة في القتال. لهذا السبب تجد أن عدد أعضاء الحزب هم أقل بكثير من مجموع أفراد الطبقة التي يمثل هذا الحزب مصالحها. ولما كان الحزب يمثل مصالح الطبقة، وقد جرى استنباطها بأسلوب صائب، تلعب الأحزاب عادة الدور القيادي بالنسبة لطبقاتها. الحزب يقود الطبقة كلها، والصراع بين الطبقات من أجل السلطة يعبر عن نفسه على شكل صراع الأحزاب السياسية على السلطة. والذي يريد فهم طبيعة الأحزاب السياسية يجب أن يدرس العلاقات المتبادلة بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي. تبرز المصالح الطبقية المحددة من هذه العلاقات المتبادلة. وكما قلنا سابقا، فإن الهدف الرئيسي للأحزاب السياسية هو الدفاع عن المصالح الطبقية.

ملاك الأراضي: في الطور الأول لنمو الرأسمالية، كان الاقتصاد الزراعي يرتكز إلى عمل الفلاحين شبه الأرقاء. مالك الأرض يؤجر الأرض للفلاحين ويحصل على الريع نقدا أو عينيا. ومن أساليب الدفع التي كانت متبعة أن يبذل الفلاح نصف وقته في فلاحة أراضي المالك. وكان من مصلحة ملاك الأراضي كطبقة أن يحولوا دون هجرة الفلاحين إلى المدن. لذا كانوا يقاومون أي تجديد، ويتمسكون بعلاقات العبودية السائدة في القرى، ويعاندون تطور الصناعة الإنتاجية. كان ملاك الأراضي يملكون اقطاعات واسعة، وكان معظمهم لا يقوم بأي عمل على الإطلاق، وإنما يعيش كالحشرات الطفيلية على حساب الفلاحين. وكنتيجة لذلك، كانت الأحزاب الممثلة لملاك الأراضي، ولا تزال، الركائز الأساسية للرجعية. إنها الأحزاب الساعية، في كل مكان، للعودة إلى العهد القديم، إلى حكم ملاك الأرض، إلى إعادة مالك الأرض –القيصر (الملك) وتأمين سيطرة «النبلاء ذوي الدم الأزرق»، واستعباد الفلاحين والعمال استعبادا كاملا. وهم يشكلون الأحزاب المسماة «محافظة»، والأصح أن نسميهم «الأحزاب الرجعية». ومنذ غابر الزمان، يستمد الجيش والبحرية ضباطها من بين صفوف النبلاء ملاك الأراضي، فمن الطبيعي إذن أن تكون أحزاب ملاك الأرض على وفاق تام مع الجنرالات وأميرالات البحر. وهذا ما نجده في كل بلدان العالم.

البرجوازية الرأسمالية: تكمن مصلحة هذه الطبقة في تأمين أكبر قدر ممكن من الأرباح من خلال تطوير «الصناعة الوطنية»، أي في استخراج فضل القيمة من الطبقة العاملة. وبالطبع فإن هذه المصلحة لا تتوافق كليا مع مصالح ملاك الأرض. ذلك أن ظروف الحياة التقليدية تضطرب عندما يبدأ رأس المال بالتسلل إلى حياة القرى. ينجذب الفلاحون نحو المدينة، ويولد رأس المال طبقة بروليتارية كبيرة، ويثير حاجات جديدة لدى أهالي القرى ، وإذا بالفلاحين يسلكون طريق التململ والتمرد بعد أن كانوا مستكينين خانعين. إن ملاك الأرض يرفضون كل هذه البدع، بينما البرجوازية الرأسمالية تجدها حبلى بالوعود. فبقدر ما ينجذب الفلاحون نحو المدن، يتسع نطاق العمل المأجور المسخر لخدمة الرأسماليين وتنخفض الأجور. وبقدر ما تنهار حياة الريف ويكف المنتجون الصغار عن إنتاج السلع المختلفة لاستهلاكهم الخاص، تزداد حاجتهم لشراء هذه السلع من الصناعيين الكبار. هذا يعني أنه كلما تسارعت عملية اضمحلال الظروف القديمة حيث كانت القرية تنتج فيها كل ما تحتاجه لاستهلاكها الخاص، يزداد اتساع سوق المنتجات المصنوعة وترتفع أرباح الرأسماليين.

لهذا السبب يهاجم الرأسماليون ملاك الأراضي ذوي العقلية القديمة (ولا يجوز أن ننسى هنا ملاك الأرض الرأسماليين الذين يستثمرون الأراضي بمساعدة الآلات والعمل المأجور. إن مصالح هؤلاء قريبة جدا من مصالح البرجوازية، وغالبا ما ينضمون إلى أحزاب الرأسماليين الكبار). ولكن الصراع الرئيسي بالنسبة للرأسماليين هو صراعهم مع الطبقة العاملة. وعندما تخوض الطبقة العاملة معظم معاركها ضد ملاك الأراضي، ولا تولي إلا أهمية ثانوية للصراع ضد البرجوازية، تنظر البرجوازية بعين الرضى إلى نضال الطبقة العاملة. هكذا كان الحال في روسيا عام 1904 وحتى أكتوبر عام 1905. ولكن عندما يبدأ العمال باكتشاف مصالحهم الشيوعية ويشنون النضال ضد البرجوازية، إذ ذاك تتحالف البرجوازية مع ملاك الأراضي ضد العمال. لذا نجد أن أحزاب البرجوازية الرأسمالية (المسماة أحزابا «ليبرالية») تخوض الآن، وفي كل مكان، معركة ضارية ضد البروليتاريا الثورية، وتشكل هذه الأحزاب القيادية السياسية للردة المضادة للثورة.

البرجوازية الصغيرة في المدن. ينتمي إلى هذه الفئة الحرفيون المستقلون وأصحاب الحوانيت الصغيرة، والفئات الدنيا من الانتلجنسيا والموظفين. وهم لا يشكلون في الواقع طبقة قائمة بذاتها وإنما كتلة هلامية من البشر. كل هذه العناصر تعاني من الاستغلال الرأسمالي، إلى هذا الحد أو ذاك، وغالبا ما تبذل ساعات عمل طويلة. والعديد منهم ينهار اقتصاديا خلال التطور الرأسمالي. على أن شروط عملهم تمنع العديد منهم من إدراك مدى مأساوية وضعهم في ظل الرأسمالية. لنأخذ الحرفي المستقل كمثال. إنه نشيط قدر نشاط النملة. يتعرض للاستغلال الرأسمالي بأشكال مختلفة. المرابي يستغله. صاحب المشغل الذي يعمل فيه يستغله… على أن الحرفي يعتبر نفسه «سيدا»، إنه يعمل بالأدوات التي يملكها، وهكذا يبدو «مستقلا» مع أنه في الحقيقة واقع في شباك العنكبوت الرأسمالي. وهو يعيش على أمل دائم بأن يرتقي اجتماعيا. يقول لنفسه: «سوف أوسع مهنتي قريبا ثم ابدأ بشراء المواد الأولية لحسابي الخاص». وهو، إلى ذلك كله، حريص على عدم الاختلاط بالعمال، ويسعى في نسق حياته، إلى تقليد النبلاء، لأنه يطمح إلى أن يكون هو نفسه «خواجه» ذات يوم. لذا تجد أنه يشعر بصلة قربى تشده إلى الرأسمالي الذي يستغله أكثر من شعوره بالقربى من العمال، مع أنه ليس أحسن حالا من العمال الفقراء. وترفع أحزاب البرجوازية الصغيرة في الغالب راية «الراديكالية» أو «الجمهورية»، لكنها قد تكون أيضا أحزابا «اشتراكية». يصعب إخراج البرجوازيين الصغار من هذا الإطار الذهني الخاطئ الذي يعيشون ضمنه. ذلك قدرهم البائي، مع أنهم ليسوا شخصيا مسؤولين عنه.

الفلاحون. يحتل الفلاحون في الريف موقعا قريبا جدا من الموقع الذي تحتله البرجوازية الصغيرة في المدن. وهم أيضا لا يشكلون طبقة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنهم ينشقون إلى فئات طبقية متعددة في ظل الرأسمالية. وفي كل قرية، نجد الفلاحين يهاجرون إلى المدن بحثا عن عمل، وسرعان ما يتحولون إلى بروليتاريين. بينما الفلاحون الآخرون يتحولون إلى فلاحين أغنياء أو مرابين. الفلاحون «المتوسطون» يشكلون فئة عديمة الاستقرار. العديد منهم ينهار مع الزمن، ويتحول إلى «رجل بدون أحصنة» ويضطر بالتالي إلى العمل كعامل زراعي أو عامل صناعي. ويحالف الحظ البعض الآخر و«يحتل مكانه تحت الشمس»، فيراكم الثروات، ويتحول إلى «فلاح سيد» يستخدم العمال الزراعيين والآلات الزراعية –أي أن أفراد هذه الفئة يتحولون إلى أصحاب مشاريع رأسمالية. لهذا كله نقول أن الفلاحين لا يشكلون طبقة واحدة، بالمعنى الدقيق للكلمة. ولا بد لنا من أن نميز ثلاث فئات فلاحية. الفئة الأولى هي فئة الفلاحين الأغنياء، الفلاحين الأسياد، الذين تتشكل منهم البرجوازية الريفية، ذلك أنهم يستغلون العمل المأجور. والفئة الثانية هي فئة الفلاحين المتوسطين، الذين يعملون في مزارعهم الصغيرة ولا يستغلون العمل المأجور. أما الفئة الثالثة والأخيرة، فهي فئة الفلاحين الفقراء الذين تتكون مهم شبه البروليتاريا الريفية والبروليتاريا الريفية.

يسهل إذن أنة ندرك أن أفراد هذه الفئات الفلاحية المختلفة يتخذون مواقف متباينة من الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، نظرا لاختلاف مواقعهم هم. فالفلاحون الأغنياء هم في العادة حلفاء البرجوازية، وغالبا ما يكونون حلفاء ملاك الأراضي أيضا. ومن جهة ثانية، فمن الطبيعي للفئة شبه البروليتارية في الريف أن تدعم العمال في نضالهم ضد البرجوازية والفلاحين الأغنياء. أما بالنسبة للفلاحين المتوسطين، فإن وضعهم أكثر تعقيدا.

لو أن الفلاحين المتوسطين يدركون أن لا حل لقضايا الكثرة الساحقة منهم في ظل الرأسمالية، وأن قلة قليلة منهم فقط هي التي ستتمكن من بلوغ مستوى فلاحين أغنياء، بينما الكثرة الساحقة ستضطر إلى العيش في البؤس المدقع. لو أنهم يدركون كل ذلك، لكانوا دعموا العمال بدون تحفظ، لكن مأساتهم تكمن هنا بالضبط. فالذي ينطبق على الحرفيين المستقلين والبرجوازيين الصغار في المدن ينطبق عليهم هم أيضا. فكل واحد منهم من يعلل نفسه بحلم الارتقاء الاجتماعي، بحلم جمع الثروات، مع أن الفلاح المتوسط يعاني من اضطهاد الرأسمالي والمرابي ومالك الأرض والفلاح الغني. فتكون النتيجة أن الفلاحين المتوسطين غالبا ما يتأرجحون بين البروليتاريا والبرجوازية. وهم عاجزون عن تبني برنامج البروليتاريا كليا، مع أنهم يخافون ملاك الأرض في الوقت ذاته.

الطبقة العاملة (البروليتاريا) تتكون هذه الطبقة من الذين «لا يملكون أن يخسروا سوى قيودهم». إنهم ضحايا الاستغلال الرأسمالي الذين يؤدي التطور الرأسمالي إلى زيادة التحامهم في كتلة متماسكة ومنسجمة مكونة من أناس اعتادوا العمل والنضال جنبا إلى جنب. لهذا السبب نعتبر أن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر تقدما في المجتمع الرأسمالي. ولهذا السبب أيضا، نعتبر أن حزب الطبقة العاملة، هو الحزب الأكثر تقدما والأكثر ثورية الذي أنتجه التاريخ.

فمن الطبيعي إذن أن يكون هدف ذلك الحزب هو الثورة الشيوعية. ويجب على الحزب البروليتاري التمسك بهذا الهدف دون مساومة. ذلك أن دوره ليس المساومة مع البرجوازية وإنما الإطاحة بسلطتها وسحق مقاومة الرأسماليين. أي أنه يجب على هذا الحزب أن «يكشف التناقض المطلق في المصالح بين المستغِلين والمستغَلين» (العبارة من البرنامج القديم لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي).

ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه حزبنا من البرجوازية الصغيرة، من الفئات المفقرة غير البروليتارية في المدن، ومن الفلاحين المتوسطين؟

الموقف واضح نظرا لما قلناه أعلاه. يجب إلا نكلّ أو نملّ من ترداد براهيننا وشروحنا لإقناع هؤلاء بأن أوهامهم حول تحسين أحوالهم في ظل الرأسمالية أما أن تكون نتيجة تضليل الآخرين وأما أن تكون نتيجة خداع الذات. يجب أن نشرح للفلاحين المتوسطين، بوضوح وصبر، أنه ينبغي عليهم الانضمام إلى المعسكر البروليتاري بدون تردد، وان يقاتلوا جنبا إلى جنب مع العمال، رغم كافة الصعاب. والواجب يدفعنا إلى أن نبين لهم أن الفئة الفلاحية الوحيدة الني تفيد من انتصار البرجوازية هي فئة الفلاحين الأغنياء الذين سوف يتحولون إلى طبقة جديدة من ملاك الأرض. باختصار، علينا أن ندعو جميع المنتجين إلى التحالف مع البروليتاريا، إلى النظر إلى الأمور من زاوية نظر البروليتاريا. والواقع أن أفراد البرجوازية الصغيرة والفلاحين المتوسطين مليئون بالترسبات الناجمة عن ظروف معيشتهم. ومن واجبنا أن نكشف لهم حقيقة الأوضاع السائدة. يجب أن نبين لهم أن موقع الحرفي والفلاح المنتج في ظل الرأسمالية هو موقع بائس، وأنه لا بد له من التخلي عن الأوهام التي يلهو بها. يجب أن نقول للفلاح المتوسط أن بقاء الرأسمالية يعني استمرار ملاك الأرض في «جرش الملح على ظهره»، وسيان هنا أكان مالك الأرض نبيلا من الطراز القديم من ملاك الأرض أم فلاحا غنيا، أي مالك أرض من طراز جديد.إن إمكانية إعادة بناء الحياة على أسس جديدة لا تقوم إلا عبر انتصار وتدعيم البروليتاريا. ولكن بما أن انتصار البروليتاريا مرهون بتنظيم العمال وبوجود حزب قوي متماسك وحازم، يجب علينا أن نضم إلى صفوفنا جميع الكادحين، جميع الذين يعز عليهم بناء حياة جديدة، جميع الذين تعلموا الفكر والنضال كبروليتاريين.


.... تابع قراءة التدوينة