مميزات النظام الشيوعي. الإنتاج في ظل الشيوعية.
رأينا كيف أن انهيار النظام الرأسمالي أمر حتمي. وها هو يتفكك أمام أعيننا. إنه يتفكك لأنه يعاني من تناقضين أساسين: فوضى الإنتاج وما تؤدي إليه من منافسة وأزمات وحروب، من جهة، والطابع الطبقي للمجتمع الذي يدفع حتما بقسم من المجتمع إلى العداء المميت للقسم الآخر (الحرب الطبقية) من جهة ثانية. إن المجتمع الرأسمالي أشبه ما يكون بآلة لم يحسن صنعها، يتدخل جزء منها باستمرار بحركة الأجزاء الأخرى. (انظر المادة بعنوان «تناقضان أساسيان في النظام الرأسمالي»). لذا كان حتميا أن تخرب هذه الآلة وتتفكك عاجلا أم آجلا.
وبديهي أن يكون المجتمع الجديد مبنيا على أسس أرسخ من الأسس التي قامت عليها الرأسمالية. وما أن يؤدي هذان التناقضان الأساسيان إلى تدمير النظام الرأسمالي، حتى يتوجب قيام مجتمع جديد على أنقاض هذا النظام يكون متحررا من تناقضاته. هذا يعني أن نمط الإنتاج الشيوعي يجب أن يتميز أولا بأول بأنه مجتمع منظم، أي مجتمع متحرر من فوضى الإنتاج والمنافسة بين الرأسماليين الأفراد، كما هو متحرر من الأزمات. ثانيا. يجب على المجتمع الشيوعي أن يكون مجتمعا بدون طبقات، أي أنه مجتمع ليس منقسما إلى شقين متناحرين حيث تقوم طبقة باستغلال الطبقة الأخرى. وأن مجتمعا تزول فيه الطبقات ويسوده تنظيم الإنتاج هو مجتمع رفاقي، مجتمع شيوعي يرتكز إلى العمل.
لننظر بمزيد من الدقة إلى هذا المجتمع.
إن أساس المجتمع الشيوعي هو الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج والتوزيع. الآلات، قاطرات سكة الحديد، السفن التجارية، أبنية المصانع، المستودعات، أهراءات الحبوب، المناجم، البرق والهاتف، الأرض، الماشية، الأحصنة يجب أن تكون كلها بتصرف المجتمع. المجتمع ككل يجب أن يسيطر على كل وسائل الإنتاج هذه، بدلا من أن تكون تحت سيطرة رأسماليين أفراد أو «تروستات» رأسمالية. ما الذي نعنيه ب«المجتمع ككل»؟ نعني أن الملكية والسيطرة لن تعودا امتيازا لطبقة واحدة، وإنما تصبحا بتصرف جميع أفراد المجتمع. وفي ظروف كهذه، يتحول المجتمع إلى ورشة عمل كبيرة للإنتاج المشترك. ولا يجوز للإنتاج أن يصاب بالتفكك أو بالفوضى. ففي نظام اجتماعي كهذا، يكون الإنتاج منظما. فالمشروع الاقتصادي لن ينافس المشروع الاقتصادي، وإنما تتحول المصانع والمشاغل والمناجم ومؤسسات الإنتاج الأخرى إلى فروع في ورشة شعبية واسعة تشمل اقتصاد الإنتاج الوطني بمجمله. ومن البديهي أن مثل هذا التنظيم الشامل يفترض وجود خطة عامة للإنتاج. فإذا ما تجمعت كل المصانع والمشاغل بالإضافة للإنتاج الزراعي برمته لتكوين مشروع تعاوني جبار، فبديهي أن يكون كل شيء محسوب له الحسبان في مثل هذا المشروع. يجب أن نعلم سلفا كمية العمل المطلوب تعيينها لمختلف فروع الصناعة، وما هي المنتجات المطلوبة وما هي الكمية الواجب إنتاجها من كل منها، ومن أين وكيف نحصل على الآلات. إن هذه التفاصيل، وسواها، يجب التفكير بها سلفا بأكبر قدر ممكن من الدقة على أقل تقدير. ويجب توجيه العمل بمقتضى حساباتنا هذه. هكذا يتم تنظيم الإنتاج الشيوعي. فبدون خطة شاملة، وبدون نظام توجيه عام، وبدون محاسبة ورصد دقيقين، لا يكون هناك تنظيم. هذا هو نوع الخطة الذي يحتاجها النظام الشيوعي.
على أن مجرد التنظيم لا يكفي بحد ذاته. فجوهر المسألة هو في أن يكون التنظيم تنظيما تعاونيا لجميع أفراد المجتمع. وبالإضافة لمسألة التنظيم هذه، يتميز النظام الشيوعي بكونه يقضي على الاستغلال ويلغي قسمة المجتمع إلى طبقات. يمكن تصور تنظيم الإنتاج على النحو التالي: مجموعة من الرأسماليين تسيطر على كل شيء، وهكذا يكون الإنتاج منظما بحيث الرأسمالي لا ينافس الرأسمالي، وإنما يتعاونان على استخراج فضل القيمة من العمال بعد تحويلهم عمليا إلى عبيد أرقاء. هذا التنظيم متوافر، لكنه مترافق مع استغلال طبقة لأخرى.وهنا نجد أن وسائل الإنتاج مملوكة جماعيا، لكنها ملكية جماعية لطبقة واحدة فقط هي الطبقة المستغِلة. وهذا أمر مختلف كل الاختلاف عن الشيوعية، مع أنه يتسم بتنظيم الإنتاج. إن مثل هذا التنظيم للمجتمع يزيل واحدا من التناقضين الأساسين: فوضى الإنتاج. لكنه يعزز، في المقابل، التناقض الأساسي الآخر في المجتمع الرأسمالي –قسمة المجتمع إلى معسكرين متناحرين. أي أنه يزيد من حدة الحرب الطبقية. ينجح مثل هذا المجتمع في تنظيم جانب واحد من جانبيه الاثنين. أما جانبه الآخر، جانب بنيته الطبقية، فإنه مهدد دوما بالانفجار. إن المجتمع الشيوعي لا يكتفي بتنظيم الإنتاج.
إنه يحرر الإنسان من اضطهاد الإنسان أيضا. أي أنه مجتمع يسود التنظيم كل مرافقه.
كذلك فإن الطابع التعاوني للإنتاج الشيوعي يظهر في أدق تفاصيل التنظيم. في المجتمع الشيوعي، مثلا، لن نلقى مديرين يتولون إدارة المصانع باستمرار، ولن نلقى أناسا يؤدون العمل ذاته طوال حياتهم. في ظل الرأسمالية، إذا كان المرء صانع أحذية، فإنه يقضي حياته كلها في صنع الأحذية. وإذا كان طباخا، يقضي كل حياته في مصنع قوالب الحلوى. وإذا كان مديرا لمصنع، يصرف أيامه في إصدار الأوامر وفي العمل الإداري. أما إذا كان عاملا، فإنه يقضي العمر كله يطيع الأوامر. المجتمع الشيوعي لا يعرف أيا من هذه الأمور. ففي ظل الشيوعية، يتلقى البشر ثقافة شاملة ومتعددة الجوانب، بحيث يسهل عليهم العمل في مختلف فروع الإنتاج: اليوم أعمل كمدير، وأحسب كم يجب إنتاجه من الأحذية وقوالب الحلوى خلال الشهر القادم، وغدا سأعمل في مصنع للصابون، وربما عملت الشهر القادم في تنظيف الثياب، والشهر الذي يليه في محطة توليد الكهرباء. هذا ما يمكن تحقيقه عندما يتوافر لأفراد المجتمع التعليم اللائق.
التوزيع في المجتمع الشيوعي
إن نمط الإنتاج الشيوعي يفترض تسخير الإنتاج لسد الحاجات المباشرة لا تسخيره لمتطلبات السوق. في ظل الشيوعية، لا يتم الإنتاج على يد صانع واحد أو فلاح واحد، وإنما يتولى الإنتاج تعاونية ضخمة. وبنتيجة هذا التغير، ينتج المجتمع منتجات لا سلعا. هنا تزول مبادلة المنتجات بعضها ببعض، كما تزول عملية البيع والشراء. بكل بساطة، تخزن هذه المنتجات في المستودعات الجماعية يجري تسليمها للذين يحتاجونها. وفي ظروف كهذه، تزول الحاجة إلى النقود. وقد يسأل البعض: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ وماذا لو أدى ذلك إلى حصول البعض على ما هو دون حاجته والبعض الآخر على ما هو فائض عنها؟ وماذا تكون الجدوى من اعتماد هذه الطريق في التوزيع؟»
الجواب هو كالآتي: في البدء، سوف تضطر لوضع تشريعات خاصة لن تلغي قبل عشرين أو ثلاثين سنة.
وبعض المنتجات لن تعطي إلا للذين يملكون إشارات خاصة على بطاقات عملهم. ثم نتخلى عن كل هذه التشريعات عندما يترسخ المجتمع الشيوعي ويكتمل نموه. فتصبح كل المنتجات متوافرة بكميات إضافية، ونكون قد شفينا من جراحنا الحالية، فيمسي بامكان كل منا أن يحصل على ما يريد حسب حاجته إليه. «ولكن، ألن يسعى الناس إلى الحصول على ما يفيض عن حاجاتهم؟» لا، بالتأكيد. في الوقت الحاضر، لا يفكر أي منا، إذا أراد احتلال مقعد في القطار، أن يشتري ثلاث بطاقات سفر، ويبقى مقعدين خاليين إلى جانب. هكذا سيكون الحال بالنسبة لجميع المنتجات. فالمرء يستحصل من المستودع الجماعي على حاجته، لا أكثر ولا أقل. ولن يكون هنالك مصلحة لأحد بأن يأخذ ما يزيد عن حاجته لبيع الفائض لآخر، لأن المجتمع يكون قد سد حاجات هذا الآخر على كل حال. إذ ذاك تفقد العملة قيمتها.
نعني بذلك كله أن المنتجات سوف توزع، في المراحل الأولى من المجتمع الشيوعي، حسب كمية العمل المبذولة. ثم توزع، في المراحل اللاحقة، حسب حاجة الرفاق إليها.
الجواب هو كالآتي: في البدء، سوف تضطر لوضع تشريعات خاصة لن تلغي قبل عشرين أو ثلاثين سنة.
وبعض المنتجات لن تعطي إلا للذين يملكون إشارات خاصة على بطاقات عملهم. ثم نتخلى عن كل هذه التشريعات عندما يترسخ المجتمع الشيوعي ويكتمل نموه. فتصبح كل المنتجات متوافرة بكميات إضافية، ونكون قد شفينا من جراحنا الحالية، فيمسي بامكان كل منا أن يحصل على ما يريد حسب حاجته إليه. «ولكن، ألن يسعى الناس إلى الحصول على ما يفيض عن حاجاتهم؟» لا، بالتأكيد. في الوقت الحاضر، لا يفكر أي منا، إذا أراد احتلال مقعد في القطار، أن يشتري ثلاث بطاقات سفر، ويبقى مقعدين خاليين إلى جانب. هكذا سيكون الحال بالنسبة لجميع المنتجات. فالمرء يستحصل من المستودع الجماعي على حاجته، لا أكثر ولا أقل. ولن يكون هنالك مصلحة لأحد بأن يأخذ ما يزيد عن حاجته لبيع الفائض لآخر، لأن المجتمع يكون قد سد حاجات هذا الآخر على كل حال. إذ ذاك تفقد العملة قيمتها.
نعني بذلك كله أن المنتجات سوف توزع، في المراحل الأولى من المجتمع الشيوعي، حسب كمية العمل المبذولة. ثم توزع، في المراحل اللاحقة، حسب حاجة الرفاق إليها.
الإدارة في النظام الشيوعي
المجتمع الشيوعي مجتمع بلا طبقات. وهذا يعني أن المجتمع الشيوعي هو أيضا مجتمع بلا دولة. لقد بينا سابقا أن الدولة أن الدولة هي التنظيم الطبقي للحكام. والدولة دائما موجهة من قبل طبقة ضد طبقة أخرى. الدولة البرجوازية موجهة ضد البروليتاريا، بينما الدولة البروليتارية موجهة ضد البرجوازية. في المجتمع الشيوعي لا يوجد ملاك أرض ورأسماليون ولا عمال مأجورون –يوجد بشر فقط، يوجد رفاق. وإذا زالت الطبقات، يزول معها الصراع الطبقي، كما تزول التنظيمات الطبقية. وبالتالي، فهذا يعني أن الدولة قد زالت هي أيضا. فلم يعد ثمة من حاجة لقمع أحد، كما لم يعد يوجد من يحتاج إلى ممارسة القمع.
وقد يسأل سائل: ولكن كيف يمكن تسيير هذا التنظيم الاجتماعي الضخم بدون إدارة؟ من هو الذي سيضع خطط الإنتاج الاجتماعي؟ من هو الذي سيوزع قوة العمل؟ من سيمسك حسابات الدخل والإنفاق الاجتماعيين؟ بكلمة: من الذي سيشرف على الوضع كله؟
الجواب على كل هذه الأسئلة ليس صعبا. المهام الإدارية المباشرة ستوكل طبعا لمكاتب المحاسبة والإحصاء، التي سوف تتولى يوميا حساب الإنتاج بكامل متطلباته، وتقرر أين يرسل العمال، ومن يؤتي بهم، كما تقرر كمية العمل المطلوبة. وسوف يعمل الجميع وفق إرشادات هذه المكاتب الإحصائية بالقدر الذي تعلموا فيه العمل الجماعي منذ نعومة أظافرهم، وطالما أنهم جميعا يدركون أن هذا العمل ضروري وأن الحياة تصبح أيسر عندما يتم كل شيء وفق خطة موضوعة سلفا وعندما يكون النظام المجتمعي مثل آلة أحسن تزييت أجزائها. ولا حاجة هنا لوزراء دولة وللشرطة والسجون، للقوانين والمراسيم، وما شابه. وكما في الفرقة الموسيقية يراقب العازفون عصا القائد ويعملون حسب حركاتها، كذلك هنا، فالجميع يطّلع على التقارير الإحصائية ويوجه جهده بناء عليها.
هذا يعني أن الدولة قد تلاشت. لا انقسام إلى مجموعات ولا طبقة تهيمن على باقي الطبقات. ثم أن الناس يتناوبون على العمل في مكاتب الإحصاء. وهكذا تزول البيرقراطية، أي تزول فئة الموظفين المحترفين الدائمين، فتتلاشى الدولة.
على أنها لن يتم إلا في ظل نظام شيوعي راسخ البنيان ومكتمل النمو، ولن يتحقق فورا بعد إحراز النصر. إن الطبقة العاملة مضطرة للنضال ضد أعدائها لفترة طويلة، وخاصة ضد ترسبات الماضي كالكسل والجريمة والعجرفة. هذه أمراض يجب القضاء عليها. ولا بد من تعاقب جيلين أو ثلاثة من البشر في ظل الظروف الجديدة قبل زوال الحاجة إلى القوانين والعقوبات وإلى استخدام الأساليب القمعية من قبل الدولة العمالية. لا بد من انقضاء جيلين أو ثلاثة قبل أن تزول كل مخلفات الماضي الرأسمالي. ومع أن الدولة العمالية تبقى ضرورية طوال هذه المرحلة الانتقالية فلا بد أن تتلاشى سلطة الدولة البروليتارية في النظام الشيوعي المكتمل النمو عند زوال مخلفات المجتمع الرأسمالي. وتندمج البروليتاريا بفئات الشعب الأخرى، لأن الجميع سوف يساهم تدريجيا في العمل المشترك. وفي غضون عقود من الزمن يولد عالم جديد وشعوب جديدة لها عادات جديدة.
تطور قوى الإنتاج في النظام الشيوعي (فوائد الشيوعية)
ما أن يحرز النصر وتلتئم الجراح، حتى يبدأ النظام الشيوعي بالتنمية السريعة لقوى الإنتاج. وتعود هذه التنمية السريعة للأسباب التالية:
أولا، إن قيام الشيوعية يحرر كمية ضخمة من الطاقة البشرية كانت سابقا مهدورة في الصراع الطبقي. لنفكر بعض الشيء بضخامة الهدر للطاقة العصبية والجهد والعمل الناتج عن الصراعات السياسية، والاضرابات والتمردات وقمعها والمحاكمات ونشاط البوليس وسلطة الدولة والجهود اليومية التي تبذلها الطبقات المتناحرة. إن الصراع الطبقي يبتلع الآن كميات من النشاط والامكانات المادية. في النظام الجديد، سوف تتحرر كل هذه الطاقات، لأن النزاع بين البشر سوف يزول. ويجري تكريس هذه الطاقات المحررة لتنمية الإنتاج.
ثانيا، ينقذ النظام الشيوعي الطاقات والامكانات المادية التي تفني أو تهدر حاليا في المنافسة والأزمات والحروب. يكفي أن نفكر بما يهدر أيام الحروب، لندرك مدى ضخامة هذه الطاقات والامكانات. كم يخسر المجتمع من صراع البائعين فيما بينهم وصراعهم مع المشترين. وكم من الخراب السخيف ينجم عن الأزمات التجارية. وكم من الهدر تؤدي إليه الفوضى المسيطرة على الإنتاج. إن المجتمع الشيوعي سوف يوفر كل هذه الطاقات التي تهدر حاليا.
ثالثا، إن تنظيم الصناعة وفق خطة هادفة سوف يوفر علينا الهدر غير المبرر، لأن الإنتاج الكبير هو دائما أكثر توفيرا من الإنتاج الصغير. وليس هذا وحسب، بل أن تنظيم الصناعة على هذا النحو يسمح أيضا بتحسين الإنتاج من الناحية التقنية، فيتم العمل في مصانع كبيرة تستخدم أكثر الآلات تطورا. هناك قيود على استخدام الآلات الجديدة في ظل الرأسمالية. قرب العمل الرأسمالي لا يلجأ إلى الآلات الجديدة إلا عندما يعجز عن الحصول على قدر كاف من الأيدي العاملة الرخيصة. وعندما ينجح في الحصول على ما يحتاجه من أيد عاملة رخيصة، يمتنع عن إدخال الآلات الجديدة، لأنه يستطيع تحقيق الأرباح الطائلة بدونها. فالرأسمالي يلجأ إلى الآلات فقط عندما تؤدي الآلات إلى تخفيض نفقاته بالنسبة للعمل المرتفع الأجور. على أن العمل رخيص عادة في ظل الرأسمالية. ومن هنا فإن الظروف السيئة التي تسود أوساط الطبقة العاملة تشكل عائقا أمام تحسين التقنية الإنتاجية. وتبرز هذه الصلة السببية بأوضح ما تبرز في الزراعة. هنا كانت قوة العمل دائما رخيصة، ولهذا السبب كان إدخال الآلات في الزراعة بطيئا جدا. المجتمع الشيوعي ليس معنيا بالربح، وإنما هو معني بالعمال. لذا فهو يتبنى فورا كل تقدم تقني. ويكسر القيود التي فرضتها الرأسمالية عليه. وبالطبع يستمر التقدم التقني في المجتمع الشيوعي، لأن الجميع سوف يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء –الذين كانوا يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء- الذين كانوا يقضون كضحايا للعوز في ظل الرأسمالية- سوف يتمكنون من توظيف كفاءاتهم إلى أقصى حد.
وسوف يقضي المجتمع الشيوعي على الطفيلية أيضا. فلا مجال فيه للذين لا يبذلون أي جهد ويعيشون على حساب الآخرين. والذي كان المجتمع الرأسمالي يهدره على الشراهة والعربدة والحياة الصاخبة سوف يكرس لمقتضيات الإنتاج. وسوف يختفي الرأسماليون مع بطانتهم والمتعيشين عليهم (من رجال دين ومومسات وغيرهم)، ويوظف جميع أفراد المجتمع جهودهم في العمل المنتج.
ثم أن نمط الإنتاج الشيوعي سوف يؤدي إلى تنمية القوى الإنتاجية. وكنتيجة لذلك، لن يضطر العمل إلى بذل كمية العمل التي كان يبذلها في السابق. وهكذا تتقلص ساعات العمل اليومية باستمرار ويتحرر البشر باطراد من القيود التي تفرضها عليهم الطبيعة. وعندما يصرف الإنسان عددا متناقضا من الساعات على غذائه وكسائه، يستطيع تخصيص المزيد من الوقت لتنمية ملكاته الذهنية. بذلك تصل الثقافة الإنسانية إلى قمم لم تعرفها من قبل. وتنتفي عنها صيغة الثقافة الطبقية، لتتحول إلى ثقافة إنسانية أصيلة. ومع زوال اضطهاد الإنسان للإنسان، تزول هيمنة الطبيعة على البشر، ويصبح بمقدور النساء والرجال أن يعيشوا حياة جديرة ببشر يملكون القدرة على التفكير بدلا من حياة البهائم التي كانوا يعيشونها في السابق.
دكتاتورية البروليتاريا
إن البروليتاريا يجب أن تمركز كل السلطات بيدها لكي تتمكن من تحقيق النظام الشيوعي. وهي لا تستطيع نسف العالم القديم إلا إذا كانت السلطة بيدها، إلا إذا تحولت إلى طبقة حاكمة لفترة من الزمن. ومن الواضح أن البرجوازية لن تتخلى عن موقعها دون صراع. فالشيوعية بالنسبة إليها تعني خسارتها لسلطتها، وفقدان «حريتها» في امتصاص دم العمال وعرقهم، وحرمانها من تحصيل الإيجارات وجني الفوائد والأرباح. وبالتالي، فلا بد للمستغِلين من أن يقاوموا بضراوة ثورة البروليتاريا الشيوعية والتحويل الشيوعي للمجتمع. من هنا، فإن أول مهمة تقع على عاتق الحكومة هي مهمة سحق هذه المعارضة دون هوادة. ولأن هذه المعارضة سوف تكون ضارية جدا وشرسة للغاية، فلا بد للسلطة العمالية، لا بد للحكم البروليتاري من أن يتخذ شكل الدكتاتورية. «الديكتاتورية» تعني أساليب حكم صارمة جدا، وتعني سحق الأعداء دون هوادة. ومن الواضح أنه لا يمكن الحديث عن «الحرية» للجميع في ظل أوضاع كهذه. إن ديكتاتورية البروليتاريا متعارضة مع منح الحرية للبرجوازية. والواقع أن هذا هو بالتحديد بسبب الحاجة إلى دكتاتورية البروليتاريا: لحرمان البرجوازية من الحرية، لتقييدها وشل نشاطها، لمنعها من مواصلة النضال ضد البروليتريا الثورية. وبالقدر الذي تكون فيه مقاومة البرجوازية ضارية، وحشدها لقواها مستميتا، وموقفها خطرا، بذاك القدر يجب أن تكون دكتاتورية البروليتاريا قاسية وحازمة. وفي الحالات القصوى، لا يجوز للحكومة العمالية أن تتردد في اللجوء إلى الإرهاب. ولن تبدأ دكتاتورية البروليتاريا بإرخاء قبضتها تدرجيا إلا بعد انتهاء عملية سحق المستغِلين، وشل مقاومتهم، وعندما يفقدون القدرة على الإساءة للطبقة العاملة. في تلك الأثناء تكون البرجوازية قد أخذت تندمج بالبروليتاريا شيئا فشيئا، وتتلاشى الدولة العمالية تدريجيا، ويتحول المجتمع كله إلى مجتمع شيوعي بلا طبقات.
في ظل المؤسسة المؤقتة التي نسميها بدكتاتورية البروليتاريا لن تكون وسائل الإنتاج، بحكم طبيعة هذه الدكتاتورية نفسها، ملكا للمجتمع ككل، وإنما فقط للبروليتاريا، ولجهاز الدولة التابع لها. وتحتكر البروليتاريا، أي أكثرية السكان، ملكية وسائل الإنتاج مؤقتا. هذا يعني أن دكتاتورية البروليتاريا لا تشتمل على الإنتاج الشيوعي الشامل. فقسمة المجتمع إلى طبقات لا زالت قائمة، كما لا يزال يوجد طبقة حاكمة (هي البروليتاريا) تحتكر ملكية كافة وسائل الإنتاج، وسلطة حكومية (السلطة البروليتارية) تتولى سحق أعدائها. ولكن مع شل مقاومة الرأسماليين وملاك الأرض وأصحاب المصارف والجنرالات والأساقفة السابقين، يبدأ نظام دكتاتورية البروليتارية بالتحول إلى نظام شيوعي، دونما حاجة لثورة تكون واسطة هذا التحول.
ودكتاتورية البروليتاريا ليست فقط أداة لسحق أعدائها، إنما هي أيضا وسيلة للتحويل الاقتصادي. يجب استبدال الملكية الفردية لوسائل الإنتاج بالملكية الجماعية. ويجب حرمان البرجوازية من وسائل الإنتاج والتبادل، أي تجب «مصادرة أملاكها». من يستطيع القيام بهذه المهمة؟ بالتأكيد، ما من فرد معزول يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة بمفرده حتى ولو كان ينتمي إلى أصل بروليتاري. فلو قيض لفرد معزول، أو حتى لمجموعات معزولة من الأفراد، الاضطلاع بهذه المهمة، لتحول الأمر إلى اقتسام المغانم، في أحسن الأحوال، أو لاعتبرناه مجرد عملية سرقة، في أسوأ الأحوال. لذا نفهم لماذا يجب أن تتولى قوة البرولتاريا المنظمة مصادرة أملاك البرجوازية. إن هذه القوة المنظمة هي التي تتخذ شكل دكتاتورية الدولة العمالية.
الاستيلاء على السلطة السياسية
تحقق البروليتاريا دكتاتوريتها بالاستيلاء على السلطة السياسية. ولكن ما الذي نعنيه بالاستيلاء على السلطة؟ يتصور الكثيرون أن انتزاع السلطة من يد البرجوازية أمر يسير، يتم بالسهولة التي تنقل فيها كرة من جيب إلى آخر. في البدء تكون السلطة بيد البرجوازية، ثم تطرد البروليتاريا البرجوازية من السلطة وتمسك بزمام الأمور بأيديها. القضية، بالنسبة إلى أصحاب هذه النظرة، ليست قضية بناء سلطة جديدة وإنما هي قضية الاستيلاء على سلطة قائمة.
إن مثل هذه الأفكار مغلوطة كليا، والقليل من التأمل يسمح لنا بتبيان مكمن الخطأ.
إن سلطة الدولة جهاز منظم. وسلطة الدولة البرجوازية جهاز برجوازي يتم فيه توزيع أدوار البشر بطريقة معينة. فعلى رأس الجيش يتربع الجنرالات (العقداء)، أبناء الطبقة الغنية. وعلى رأس الإدارة يتربع الوزراء، وهم أيضا أبناء الطبقة الغنية، وما إلى هنالك. عندما تناضل البروليتاريا من أجل استلام السلطة، ضد من يكون نضالها موجها؟ إنه موجه ضد هذا الجهاز البرجوازي بالدرجة الأولى. وفي معرض مفاضلتها لهذا الجهاز، يترب على البروليتاريا تسديد ضربات كفيلة بتحطيمه. ولكن طالما أن مكمن القوة الأساسي للحكومة هو الجيش، فإن تفتيت وتدمير الجيش البرجوازي هو الشرط الأول للانتصار على البرجوازية… إذا ظل الجيش المعادي سليما ومتماسكا، يصبح انتصار الثورة مستحيلا. ولكي يتحقق هذا الانتصار، لا بد من تفكك وانهيار جيش البرجوازية. لهذا السبب مثلا لم يكن الانتصار على النظام القيصري يعني أكثر من التدمير الجزئي للدولة القيصرية والتفكك النسبي للجيش. لكن انتصار ثورة أكتوبر كان المؤشر للإطاحة الكاملة والنهائية بجهاز الدولة التابع لـ«الحكومة المؤقتة» وحل جيش كرنسكي نهائيا.
وهكذا، فإن الثورة تدمر السلطة القديمة وتبني سلطة جديدة، سلطة مختلفة عن سابقاتها. ولا بد للسلطة الجديدة من استخدام بعض عناصر السلطة القديمة، لكنها تستخدم هذه العناصر بطريقة مختلفة عن ذي قبل.
ينجم عن ذلك أن الاستيلاء على السلطة ليس استيلاء على الجهاز القائم سلفا. وإنما يتطلب بناء جهاز جديد، جهاز أتت به الطبقة التي خرجت منتصرة من الصراع.
الحزب الشيوعي وطبقات المجتمع الرأسمالي
لكي تنتصر البروليتاريا في أي بلد من البلدان، لا بد لها من أي أن تكون متماسكة ومنظمة جيدا، ولا بد من أن يكون لها حزبها الشيوعي الذي رصد بدقة اتجاه تطور الرأسمالية، وفي الظرف الراهن وأحسن تفسيره واستوعب المصالح الحقيقية للطبقة العاملة إضافة إلى امتلاكه للقدرات اللازمة لرصّ الصفوف وقيادة النضال. إن الحزب لا يستطيع أن يجند جميع أفراد الطبقة التي يمثلها. لم يحصل ذلك في أي من زمان أو مكان، ولا بلغت طبقة من الطبقات المستوى الكامل من الوعي. إن الذين ينتظمون في حزب هم، على العموم، الأكثر تقدما من أبناء الطبقة، والأكثر إدراكا لمصالحهم الطبقية. إنهم الأكثر حيوية وجرأة وصلابة في القتال. لهذا السبب تجد أن عدد أعضاء الحزب هم أقل بكثير من مجموع أفراد الطبقة التي يمثل هذا الحزب مصالحها. ولما كان الحزب يمثل مصالح الطبقة، وقد جرى استنباطها بأسلوب صائب، تلعب الأحزاب عادة الدور القيادي بالنسبة لطبقاتها. الحزب يقود الطبقة كلها، والصراع بين الطبقات من أجل السلطة يعبر عن نفسه على شكل صراع الأحزاب السياسية على السلطة. والذي يريد فهم طبيعة الأحزاب السياسية يجب أن يدرس العلاقات المتبادلة بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي. تبرز المصالح الطبقية المحددة من هذه العلاقات المتبادلة. وكما قلنا سابقا، فإن الهدف الرئيسي للأحزاب السياسية هو الدفاع عن المصالح الطبقية.
ملاك الأراضي: في الطور الأول لنمو الرأسمالية، كان الاقتصاد الزراعي يرتكز إلى عمل الفلاحين شبه الأرقاء. مالك الأرض يؤجر الأرض للفلاحين ويحصل على الريع نقدا أو عينيا. ومن أساليب الدفع التي كانت متبعة أن يبذل الفلاح نصف وقته في فلاحة أراضي المالك. وكان من مصلحة ملاك الأراضي كطبقة أن يحولوا دون هجرة الفلاحين إلى المدن. لذا كانوا يقاومون أي تجديد، ويتمسكون بعلاقات العبودية السائدة في القرى، ويعاندون تطور الصناعة الإنتاجية. كان ملاك الأراضي يملكون اقطاعات واسعة، وكان معظمهم لا يقوم بأي عمل على الإطلاق، وإنما يعيش كالحشرات الطفيلية على حساب الفلاحين. وكنتيجة لذلك، كانت الأحزاب الممثلة لملاك الأراضي، ولا تزال، الركائز الأساسية للرجعية. إنها الأحزاب الساعية، في كل مكان، للعودة إلى العهد القديم، إلى حكم ملاك الأرض، إلى إعادة مالك الأرض –القيصر (الملك) وتأمين سيطرة «النبلاء ذوي الدم الأزرق»، واستعباد الفلاحين والعمال استعبادا كاملا. وهم يشكلون الأحزاب المسماة «محافظة»، والأصح أن نسميهم «الأحزاب الرجعية». ومنذ غابر الزمان، يستمد الجيش والبحرية ضباطها من بين صفوف النبلاء ملاك الأراضي، فمن الطبيعي إذن أن تكون أحزاب ملاك الأرض على وفاق تام مع الجنرالات وأميرالات البحر. وهذا ما نجده في كل بلدان العالم.
البرجوازية الرأسمالية: تكمن مصلحة هذه الطبقة في تأمين أكبر قدر ممكن من الأرباح من خلال تطوير «الصناعة الوطنية»، أي في استخراج فضل القيمة من الطبقة العاملة. وبالطبع فإن هذه المصلحة لا تتوافق كليا مع مصالح ملاك الأرض. ذلك أن ظروف الحياة التقليدية تضطرب عندما يبدأ رأس المال بالتسلل إلى حياة القرى. ينجذب الفلاحون نحو المدينة، ويولد رأس المال طبقة بروليتارية كبيرة، ويثير حاجات جديدة لدى أهالي القرى ، وإذا بالفلاحين يسلكون طريق التململ والتمرد بعد أن كانوا مستكينين خانعين. إن ملاك الأرض يرفضون كل هذه البدع، بينما البرجوازية الرأسمالية تجدها حبلى بالوعود. فبقدر ما ينجذب الفلاحون نحو المدن، يتسع نطاق العمل المأجور المسخر لخدمة الرأسماليين وتنخفض الأجور. وبقدر ما تنهار حياة الريف ويكف المنتجون الصغار عن إنتاج السلع المختلفة لاستهلاكهم الخاص، تزداد حاجتهم لشراء هذه السلع من الصناعيين الكبار. هذا يعني أنه كلما تسارعت عملية اضمحلال الظروف القديمة حيث كانت القرية تنتج فيها كل ما تحتاجه لاستهلاكها الخاص، يزداد اتساع سوق المنتجات المصنوعة وترتفع أرباح الرأسماليين.
لهذا السبب يهاجم الرأسماليون ملاك الأراضي ذوي العقلية القديمة (ولا يجوز أن ننسى هنا ملاك الأرض الرأسماليين الذين يستثمرون الأراضي بمساعدة الآلات والعمل المأجور. إن مصالح هؤلاء قريبة جدا من مصالح البرجوازية، وغالبا ما ينضمون إلى أحزاب الرأسماليين الكبار). ولكن الصراع الرئيسي بالنسبة للرأسماليين هو صراعهم مع الطبقة العاملة. وعندما تخوض الطبقة العاملة معظم معاركها ضد ملاك الأراضي، ولا تولي إلا أهمية ثانوية للصراع ضد البرجوازية، تنظر البرجوازية بعين الرضى إلى نضال الطبقة العاملة. هكذا كان الحال في روسيا عام 1904 وحتى أكتوبر عام 1905. ولكن عندما يبدأ العمال باكتشاف مصالحهم الشيوعية ويشنون النضال ضد البرجوازية، إذ ذاك تتحالف البرجوازية مع ملاك الأراضي ضد العمال. لذا نجد أن أحزاب البرجوازية الرأسمالية (المسماة أحزابا «ليبرالية») تخوض الآن، وفي كل مكان، معركة ضارية ضد البروليتاريا الثورية، وتشكل هذه الأحزاب القيادية السياسية للردة المضادة للثورة.
البرجوازية الصغيرة في المدن. ينتمي إلى هذه الفئة الحرفيون المستقلون وأصحاب الحوانيت الصغيرة، والفئات الدنيا من الانتلجنسيا والموظفين. وهم لا يشكلون في الواقع طبقة قائمة بذاتها وإنما كتلة هلامية من البشر. كل هذه العناصر تعاني من الاستغلال الرأسمالي، إلى هذا الحد أو ذاك، وغالبا ما تبذل ساعات عمل طويلة. والعديد منهم ينهار اقتصاديا خلال التطور الرأسمالي. على أن شروط عملهم تمنع العديد منهم من إدراك مدى مأساوية وضعهم في ظل الرأسمالية. لنأخذ الحرفي المستقل كمثال. إنه نشيط قدر نشاط النملة. يتعرض للاستغلال الرأسمالي بأشكال مختلفة. المرابي يستغله. صاحب المشغل الذي يعمل فيه يستغله… على أن الحرفي يعتبر نفسه «سيدا»، إنه يعمل بالأدوات التي يملكها، وهكذا يبدو «مستقلا» مع أنه في الحقيقة واقع في شباك العنكبوت الرأسمالي. وهو يعيش على أمل دائم بأن يرتقي اجتماعيا. يقول لنفسه: «سوف أوسع مهنتي قريبا ثم ابدأ بشراء المواد الأولية لحسابي الخاص». وهو، إلى ذلك كله، حريص على عدم الاختلاط بالعمال، ويسعى في نسق حياته، إلى تقليد النبلاء، لأنه يطمح إلى أن يكون هو نفسه «خواجه» ذات يوم. لذا تجد أنه يشعر بصلة قربى تشده إلى الرأسمالي الذي يستغله أكثر من شعوره بالقربى من العمال، مع أنه ليس أحسن حالا من العمال الفقراء. وترفع أحزاب البرجوازية الصغيرة في الغالب راية «الراديكالية» أو «الجمهورية»، لكنها قد تكون أيضا أحزابا «اشتراكية». يصعب إخراج البرجوازيين الصغار من هذا الإطار الذهني الخاطئ الذي يعيشون ضمنه. ذلك قدرهم البائي، مع أنهم ليسوا شخصيا مسؤولين عنه.
الفلاحون. يحتل الفلاحون في الريف موقعا قريبا جدا من الموقع الذي تحتله البرجوازية الصغيرة في المدن. وهم أيضا لا يشكلون طبقة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنهم ينشقون إلى فئات طبقية متعددة في ظل الرأسمالية. وفي كل قرية، نجد الفلاحين يهاجرون إلى المدن بحثا عن عمل، وسرعان ما يتحولون إلى بروليتاريين. بينما الفلاحون الآخرون يتحولون إلى فلاحين أغنياء أو مرابين. الفلاحون «المتوسطون» يشكلون فئة عديمة الاستقرار. العديد منهم ينهار مع الزمن، ويتحول إلى «رجل بدون أحصنة» ويضطر بالتالي إلى العمل كعامل زراعي أو عامل صناعي. ويحالف الحظ البعض الآخر و«يحتل مكانه تحت الشمس»، فيراكم الثروات، ويتحول إلى «فلاح سيد» يستخدم العمال الزراعيين والآلات الزراعية –أي أن أفراد هذه الفئة يتحولون إلى أصحاب مشاريع رأسمالية. لهذا كله نقول أن الفلاحين لا يشكلون طبقة واحدة، بالمعنى الدقيق للكلمة. ولا بد لنا من أن نميز ثلاث فئات فلاحية. الفئة الأولى هي فئة الفلاحين الأغنياء، الفلاحين الأسياد، الذين تتشكل منهم البرجوازية الريفية، ذلك أنهم يستغلون العمل المأجور. والفئة الثانية هي فئة الفلاحين المتوسطين، الذين يعملون في مزارعهم الصغيرة ولا يستغلون العمل المأجور. أما الفئة الثالثة والأخيرة، فهي فئة الفلاحين الفقراء الذين تتكون مهم شبه البروليتاريا الريفية والبروليتاريا الريفية.
يسهل إذن أنة ندرك أن أفراد هذه الفئات الفلاحية المختلفة يتخذون مواقف متباينة من الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، نظرا لاختلاف مواقعهم هم. فالفلاحون الأغنياء هم في العادة حلفاء البرجوازية، وغالبا ما يكونون حلفاء ملاك الأراضي أيضا. ومن جهة ثانية، فمن الطبيعي للفئة شبه البروليتارية في الريف أن تدعم العمال في نضالهم ضد البرجوازية والفلاحين الأغنياء. أما بالنسبة للفلاحين المتوسطين، فإن وضعهم أكثر تعقيدا.
لو أن الفلاحين المتوسطين يدركون أن لا حل لقضايا الكثرة الساحقة منهم في ظل الرأسمالية، وأن قلة قليلة منهم فقط هي التي ستتمكن من بلوغ مستوى فلاحين أغنياء، بينما الكثرة الساحقة ستضطر إلى العيش في البؤس المدقع. لو أنهم يدركون كل ذلك، لكانوا دعموا العمال بدون تحفظ، لكن مأساتهم تكمن هنا بالضبط. فالذي ينطبق على الحرفيين المستقلين والبرجوازيين الصغار في المدن ينطبق عليهم هم أيضا. فكل واحد منهم من يعلل نفسه بحلم الارتقاء الاجتماعي، بحلم جمع الثروات، مع أن الفلاح المتوسط يعاني من اضطهاد الرأسمالي والمرابي ومالك الأرض والفلاح الغني. فتكون النتيجة أن الفلاحين المتوسطين غالبا ما يتأرجحون بين البروليتاريا والبرجوازية. وهم عاجزون عن تبني برنامج البروليتاريا كليا، مع أنهم يخافون ملاك الأرض في الوقت ذاته.
الطبقة العاملة (البروليتاريا) تتكون هذه الطبقة من الذين «لا يملكون أن يخسروا سوى قيودهم». إنهم ضحايا الاستغلال الرأسمالي الذين يؤدي التطور الرأسمالي إلى زيادة التحامهم في كتلة متماسكة ومنسجمة مكونة من أناس اعتادوا العمل والنضال جنبا إلى جنب. لهذا السبب نعتبر أن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر تقدما في المجتمع الرأسمالي. ولهذا السبب أيضا، نعتبر أن حزب الطبقة العاملة، هو الحزب الأكثر تقدما والأكثر ثورية الذي أنتجه التاريخ.
فمن الطبيعي إذن أن يكون هدف ذلك الحزب هو الثورة الشيوعية. ويجب على الحزب البروليتاري التمسك بهذا الهدف دون مساومة. ذلك أن دوره ليس المساومة مع البرجوازية وإنما الإطاحة بسلطتها وسحق مقاومة الرأسماليين. أي أنه يجب على هذا الحزب أن «يكشف التناقض المطلق في المصالح بين المستغِلين والمستغَلين» (العبارة من البرنامج القديم لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي).
ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه حزبنا من البرجوازية الصغيرة، من الفئات المفقرة غير البروليتارية في المدن، ومن الفلاحين المتوسطين؟
الموقف واضح نظرا لما قلناه أعلاه. يجب إلا نكلّ أو نملّ من ترداد براهيننا وشروحنا لإقناع هؤلاء بأن أوهامهم حول تحسين أحوالهم في ظل الرأسمالية أما أن تكون نتيجة تضليل الآخرين وأما أن تكون نتيجة خداع الذات. يجب أن نشرح للفلاحين المتوسطين، بوضوح وصبر، أنه ينبغي عليهم الانضمام إلى المعسكر البروليتاري بدون تردد، وان يقاتلوا جنبا إلى جنب مع العمال، رغم كافة الصعاب. والواجب يدفعنا إلى أن نبين لهم أن الفئة الفلاحية الوحيدة الني تفيد من انتصار البرجوازية هي فئة الفلاحين الأغنياء الذين سوف يتحولون إلى طبقة جديدة من ملاك الأرض. باختصار، علينا أن ندعو جميع المنتجين إلى التحالف مع البروليتاريا، إلى النظر إلى الأمور من زاوية نظر البروليتاريا. والواقع أن أفراد البرجوازية الصغيرة والفلاحين المتوسطين مليئون بالترسبات الناجمة عن ظروف معيشتهم. ومن واجبنا أن نكشف لهم حقيقة الأوضاع السائدة. يجب أن نبين لهم أن موقع الحرفي والفلاح المنتج في ظل الرأسمالية هو موقع بائس، وأنه لا بد له من التخلي عن الأوهام التي يلهو بها. يجب أن نقول للفلاح المتوسط أن بقاء الرأسمالية يعني استمرار ملاك الأرض في «جرش الملح على ظهره»، وسيان هنا أكان مالك الأرض نبيلا من الطراز القديم من ملاك الأرض أم فلاحا غنيا، أي مالك أرض من طراز جديد.إن إمكانية إعادة بناء الحياة على أسس جديدة لا تقوم إلا عبر انتصار وتدعيم البروليتاريا. ولكن بما أن انتصار البروليتاريا مرهون بتنظيم العمال وبوجود حزب قوي متماسك وحازم، يجب علينا أن نضم إلى صفوفنا جميع الكادحين، جميع الذين يعز عليهم بناء حياة جديدة، جميع الذين تعلموا الفكر والنضال كبروليتاريين.
المصدر : اكتب كى لا تكون وحيدا
0 للتعليق >>> إضغط هنا:
إرسال تعليق