الماركسية هي منهج أفكار ماركس ومذهبه. لقد تابع ماركس وأتم على نحو عبقري التيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة في القرن التاسع عشر والتي تعزى إلى البلدان الثلاثة الأكثر تقدما في العالم: الفلسفة الكلاسيكية الألمانية والاقتصاد السياسي الكلاسيكي الانجليزي و الاشتراكية الفرنسية المرتبطة بالتعاليم الثورية الفرنسية بوجه عام. إن ما تتصف به أفكار ماركس من منطق رائع وانسجام تام إنما يعترف به له حتى خصومه. وتؤلف أفكار ماركس بمجموعها المادية الحديثة والاشتراكية العلمية المعاصرة بوصفها نظرية الحركة العمالية وبرنامجها في جميع البلدان المتمدنة في العالم. كل هذا يحملنا على أن نقدم لعرض المضمون الرئيسي للماركسية، مذهب ماركس الاقتصادي، بلمحة موجزة عن مفهموه للعالم بوجه عام.
المادية الفلسفية:
كان ماركس قد أصبح ماديا منذ 1844–1845 أي في الفترة التي تكونت فيها أفكاره: لقد كان، بوجه خاص، من أتباع فيورباخ. و لم يقرأ ماركس بما عند فيورباخ من نقاط ضعف حتى فيما بعد إلا من حيث عدم الكفاية في منطق ماديته وشمولها. لقد كان يرى أن الشأن التاريخي العالمي لفيورباخ الذي “شغل دهرا” قائم بالضبط على مقاطعته النهائية لمثالية هيغل وتوكيده للمادية، هذه المادية التي “لم تكن في القرن الثامن عشر وخصوصا في فرنسا نضالا ضد المؤسسات السياسية الراهنة وكذلك ضد الدين واللاهوت وحسب بل أيضا… ضد كل ميتافيزية” (بمعنى “التأملات المخمورة” وبخلاف “الفلسفة المعقولة”) (كتاب “العائلة المقدسة” في “التركة الأدبية”)[1]. وكتب ماركس أيضا: “يرى هيغل أن حركة الفكر، هذه الحركة التي يشخصها ويطلق عليها اسم الفكرة، هي الاله (الخالق، الصانع)… أما أنا فإني أرى العكس: إن حركة الفكر ليست إلا انعكاسا لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان ومتحولة فيه” (“رأس المال” المجلد الأول. توضيح في آخر الطبعة الثانية)[2]. وعلى نحو تام الانسجام مع فلسفة ماركس المادية هذه كتب فريدريك انجلس عند شرحه لها في كتابه “ضد دوهرنغ” الذي قرأه ماركس قبل الطبع يوم كان مخطوطة: “إن وحدة العالم ليست في كيانه… بل في ماديته. وهذه المادية قد أثبتها… تطور طويل وشاق للفلسفة وعلوم الطبيعة… الحركة شكل وجود المادة. لم يوجد قط ولا يمكن أن يوجد أبدا في أي مكان مادة بدون حركة و لا حركة بدون مادة… ولكن إذا تساءلنا… عن ماهية الفكر والمعرفة و عن مصدرهما نجد أنهما إنتاج الدماغ الإنساني وأن الإنسان نفسه هو نتاج الطبيعة الذي نما وتطور في محيط طبيعي معين ومع هذا المحيط. و إذ ذاك يغدو من البداهة أن نتاجات دماغ الانسان التي هي أيضا عند آخر تحليل نتاجات للطبيعة ليست في تناقض بل في انسجام مع سائر الطبيعة”. “لقد كان كان هيغل مثاليا أي أن الأفكار في دماغه لم تكن في نظره إلا صور مجردة، (في الأصل: انعكاسات، يستعمل انجلس أحيانا كلمة ‘نسخ’) إلى هذا الحد أو ذاك، عن الأشياء والتطورات الواقعية. بل على العكس من ذلك فالأشياء وتطورها لم تكن في نظر هيغل إلا صورا تعكس الفكرة التي كانت موجودة، ولا أعلم أين، قبل وجود العالم”[3]. وقد كتب انجلس في مؤلفه “لودفيغ فورباخ” الذي عرض أفكاره فيه وأفكار ماركس حول فلسفة فورباخ و الذي لم يدفعه إلى الطبع إلا بعد أن أعاد قراءة المخطوطة القديمة حول هيغل وفورباخ والمفهوم المادي للتاريخ الذي وضعها بالتعاون مع ماركس في 1844–1845 يقول: “إن المسالة الاساسية العظمى في كل فلسفة ولاسيما الفلسفة الحديثة هي مسألة علاقة الفكر بالكائن أو علاقة العقل بالطبيعة… أيهما يسبق الآخر العقل أم الطبيعة… وكان الفلسفة تبعا لإجاباتهم على هذا السؤال قد انقسموا إلى معسكرين كبيرين: فأولائك الذين كانوا يؤكدون تقدم العقل على الطبيعة ويقبلون على هذا النحو في آخر تحليل بخلق العالم أيا كان نوع هذا الخلق… ألفوا معسكر المثالية. و الآخرون الذين كانوا يقررون تقدم الطبيعة انتموا إلى مختلف مدارس المادية.” وكل مفهوم آخر للمثالية والمادية – بالمعنى الفلسفي – ليس من شأنه إلا خلق البلبلة. وقد نبذ ماركس نبذا قاطعا، ليس فقط المثالية المقرونة أبدا إلى الدين، بشكل أو بآخر، بل نبذ أيضا وجهة نظر هيوم و كانط المنتشرة خصوصا في أيامنا هذه، والعجزية، والانتقادية، والمذهب الوضعي[4] بأشكالها المختلفة إذ أنه كان يعتبر هذا النوع من الفلسفة بمثابة تنازل “رجعي” أمام المثالية وفي أحسن الأحوال بمثابة “أسلوب جبان يقبل المادية في السر وينكرها في العلن.”[5]وبصدد هذا راجعوا رسالة ماركس إلى انجلز المؤرخة في 12 كانون الأول/ديسمبر 1868 التي يتحدث فيها عن محاضرة العالم الطبيعي الشهير توماي هكسلي ويلاحظ فيها أن هذا العالم قد ظهر “ماديا أكثر من العادة” واعترف “بأننا ما دمنا نلاحظ فعلا وما دمنا نفكر فلا نستطيع أن نخرج أبدا من المادية” ثم يتهمه ماركس بأنه “فتح بابا سريا” للعجزية ولنظرية هيوم. ومن المهم خصوصا أن نسجل رأي ماركس حول العلاقة بين الحرية والضرورة: “ليست الضرورة عمياء إلا ما دامت غير مفهومة. الحرية هي فهم الضرورة” (انجلس. “ضد دوهرنغ”) وهذا يعني، إذن، الاعتراف بمطابقة الطبيعة للقوانين الموضوعية، وتحول الضرورة الديالكتيكي إلى حرية (كتحول “الشيء بذاته” و غير المدرك ولكنه قابل للادراك إلى “شيء لنا”، تحول “جوهر الاشياء” إلى “ظاهرات”). إن العيب الأساسي في المادية ‘القديمة’ وفي جملتها مادية فورباخ (بالأحرى المادية “المبتذلة” عند بوخنر وفوغت وموليشوت) هو في نظر ماركس وانجلس: أول – إن هذه المادية كانت “في أساسها ميكانيكية” ولم تكن لتأخذ بعين الاعتبار آخر ما توصلت إليه الكيمياء و البيولوجيا (و من المناسب أن نضيف إليها في أيامنا هذه النظرية الكهربائية للمادة). ثانيا – إن المادية القديمة لم تكن تاريخية ولا ديالكتيكية (كانت ميتافيزيقية بمعنى أنها ضد الديالكتيكية) ولم تكن تطبق وجهة نظر التطور من جميع نواحيها على نحو منسجم محكم الحلقات إلى النهاية. ثالثا – إنها تفهم “جوهر الإنسان” على نحو تجريدي لا بمثابة “مجموعة العلاقات الاجتماعية كافة” (التي يحددها التاريخ على نحو ملموس). وهكذا لم تقم إلا “بتفسير” العالم مع أن المقصود كان “تغييره” و بتعبير آخر إن المادية القديمة لم تكن تدرك شأن “النشاط العملي الثوري”.
الديالكتيك :
لقد كان ماركس وانجلس يريان في ديالكتيك هيغل أوسع مذهب من مذاهب التطور وأوفرها مضمونا وأشدها عمقا وأثمن اكتسابا حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وكانت كل صيغة أخرى لمبدأ التطور تتراءى لهما وحيدة الجانب فقيرة المضمون تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور (الذي يتميز أحيانا بقفزات وكوارث وثورات) في الطبيعة و المجتمع. “إننا كلينا، ماركس وأنا، كنا وحدنا تقريبا اللذين عملا لانقاذ الديالكتيك الواعي” (من المثالية بما فيها الهيغلية نفسها) “و ذلك بإدخاله في المفهوم المادي للطبيعة”. “إن الطبيعة هي محك الاختبار، وبإمكاننا أن نضيف أن علم الطبيعة الحديث قد أغنى إلى أقصى حدود الغنى (كتب هذا قبل اكتشاف الراديوم والالكترونات وتحول العناصر الخ.!) ولا يزال يضيف لوازم هذا الاختبار يوميا وبذلك أثبتت هذه العلوم أن الطبيعة تعمل في نهاية المطاف على نحو ديالكتيكي لا على نحو ميتافيزيقي”.[6]
قال انجلس أيضا: “إن الفكرة الأساسية الكبرى التي تقول بأن العالم لا يتألف من أشياء تامة الصنع بل هو مجموعة من العمليات يطرأ فيها على الأشياء التي تبدو في الظاهر ثابتة وكذلك على انعكاساتها الذهنية في دماغن، أي الأفكار، تغير مستمر من الصيرورة والفناء، إن هذه الفكرة الأساسية الكبرى قد نفذت على نحو عميق منذ هيغل في الإدراك العام حتى أنه لا يوجد من يعارضها في شكلها العام هذا. ولكن الاعتراف بهذه الفكرة كلاما شيء وتطبيقا في الواقع في كل حال من الأحوال وفي كل ميدان من ميادين البحث شيء آخر”. “ليس هناك من أمر نهائي مطلق مقدس أمام الفلسفة الديالكتيكية فيه ترى كل شيء وفي كل شيء خاتم الهلاك المحتوم، وليس ثمة شيء قادر على الصمود في وجهها غير الحركة التي لا تنقطع، حركة الصيرورة والفناء، حركة التصاعد أبدا دون توقف من الأدنى إلى الأعلى. و هذه الفلسفة نفسها ليست إلا مجرد انعكاس هذه الحركة في الدماغ المفكر”. فالديالكتيك هو إذن في نظر ماركس علم القوانين العامة للحركة سواء في العالم الخارجي أم في الفكر البشري”.[7]
إن هذا المظهر الثوري لفلسفة هيغل هو ما تبناه ماركس وطوره. فالمادية الديالكتيكية “لم تعد بحاجة إلى فلسفة توضع فوق العلوم الأخرى” و إن ما تبقى من الفلسفة القديمة هو “نظرية الفكر وقوانينه – المنطق الشكلي و الديالكتيك.[8] غير أن الديالكتيك حسب مفهوم ماركس كما هو حسب مفهوم هيغل يشمل ما يسمى اليوم بنظرية المعرفة أو “العرفانية” التي يجب أن تعالج موضوعها من وجهة نظر تاريخية أيضا وذلك بأن تدرس وتعمم منشأ المعرفة وتطورها أي الانتقال من اللامعرفة إلى المعرفة.
في أيامنا دخلت فكرة النمو فكرة التطور على نحو كلي تقريبا في الوعي الاجتماعي ولكن عن غير طريق فلسفة هيغل. بيد أن هذه الفكرة كما صاغها ماركس وانجلس بالاستناد إلى هيغل هي أوسع جدا وأغنى جدا في محتواها من الفكرة الشائعة عن التطور. تطور يبدو كأنه يستنسخ مراحل مقطوعة سابقا و لكن على نحو آخر وعلى درجة الرفع (“نفي النفي”) تطور على نحو لولبي إذا صح التعبير لا على نحو خط مستقيم – تطور بقفزات وكوارث وثورات – “انقطاعات في التدرج” تحول الكمية إلى كيفية – اندفاعات داخلية نحو التطور يثيرها التضاد والتصادم في القوى والاتجاهات المتمايزة التي تعمل في جسم معين أو في حدود ظاهرة معينة أو في قلب مجتمع معين – تبعية متبادلة وصلة وثيقة لا يمكن فصمها بين جميع جوانب كل ظاهرة (و التاريخ يكشف دائما عن جوانب جديدة)، صلة تحدد مجرى الحركة الوحيد المشروع الكلي: هذ هي بعض مميزات الديالكتيك بوصفه مذهبا للتطور أغنى من المذهب الشائع. (راجع رسالة ماركس إلى انجلس بتاريخ 8 كانون الثاني 1868 حيث يهزأ من “سفسطات شتاين “المشدودة” التي من الحماقة خلطها بالديالكتيك المادي”.
المفهوم المادي للتاريخ :
أدرك ماركس خلو المادية القديمة من المنطق وعدم اكتمالها وطابعها الوحيد الجانب. فاقتنع بأنه يجب “جعل علم المجتمع منسجما مع الأساس المادي وإعادة بنائه استنادا إلى هذا الأساس”.[9] و إذا كانت المادية بوجه عام تفسر الوعي بالكائن وليس بالعكس فهي تتطلب عند تطبيقها على الحياة الاجتماعية للإنسانية تفسير الوعي الاجتماعي بالكائن الاجتماعي. يقول ماركس: “إن التكنولوجيا تبرز أسلوب عمل الإنسان تجاه الطبيعة أي العملية المباشرة لإنتاج حياته وبالتالي الظروف الاجتماعية لحياته والأفكار أو المفاهيم الفكرية التي تنجم عن هذه الظروف” (“رأس المال” المجلد الأول).[10] وقد أعطى ماركس صيغة كاملة عن الموضوعات الأساسية للمادية في تطبيقها على المجتمع البشري و على تاريخه وذلك في مقدمة كتابه: “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” قال:
“إن الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي لحياتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم. وتطابق علاقات الإنتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية.
ومجموع علاقات الإنتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع أي الأساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي وسياسي وتطابقه أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يشترط تفاعل الحياة الاجتماعي والسياسي والفكري بصورة عامة. فليس إدراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم بل على العكس من ذلك معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم. وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة من تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة أو مع علاقات الملكية – وليست هذه سوى التعبير الحقيق لتلك – التي كانت إلى ذلك الحين تتطور ضمنها. فبعد ما كانت هذه العلاقات أشكالا لتطور القوى المنتجة تصبح قيودا لهذه القوى. وعندئذ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية. ومع تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي الهائل بهذا الحد أو ذاك من السرعة. وعند دراسة هذه الانقلابات ينبغي دائما التمييز بين الانقلاب المادي لشروط الإنتاج الاقتصادية – هذا الانقلاب الذي يحدد بدقة العلوم الطبيعية – وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية و الفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه.
فكما أنه لا يمكن الحكم على فرد وفقا للفكرة التي لديه عن نفسه كذلك لا يمكن الحكم على عهد انقلاب كهذا وفقا لوعيه. فينبغي تفسير هذا الوعي بتناقضات الحياة المادية وبالنزاع القائم بين قوى المجتمع المنتجة و علاقات الإنتاج [...] إن أساليب الإنتاج الأسلوب الآسيوي والقديم و الاقطاعي والبرجوازي الحديث مرسومة بخطوطها الكبرى يمكن اعتبارها بمثابة عهود متصاعدة من التكون الاجتماعي الاقتصادي”.[11]
راجع الصيغة الموجزة التي يعطيها ماركس في رسالته إلى انجلس بتاريخ 7 تموز/جويلية 1866: “نظريتنا حول تحديد تنظيم العمل بواسطة وسائ الإنتاج.
إن اكتشاف المفهوم المادي عن التاريخ أو بتعبير أدق تطبيق وتوسيع المادية بدأب وانسجام إلى النهاية حتى تشمل ميدان الظاهرات الاجتماعية قد قضى على عيبين رئيسيين في النظريات التاريخية السابقة: أولا: لم تكن هذه النظريات تأخذ بعين الاعتبار، في أحسن الحالات، غير الدوافع، دون أن تدرك القوانين الموضوعية التي تسير تطور نظام العلاقات الاجتماعية، دون أن ترى جذور هذه العلاقات في درجة تطور الإنتاج المادي. ثانيا: كانت النظريات السابقة تهمل على وجه الضبط عمل جماهير السكان بينما مكنت المادية التاريخية لأول مرة من دراسة الظروف الاجتماعية لحياة الجماهير ومن دراسة تغيرات هذه الظروف بدقة العلوم الطبيعية. لقد كان “علم الاجتماع” وعلم التاريخ قبل ماركس يكدسان في أحسن الحالات وقائع خام مجموعة كيفما اتفق ويعرضان بعض الجوانب من حركة تطور التاريخ. لقد شقت الماركسية الطريق أمام دراسة واسعة شاملة لعملية نشوء تشكيلات المجتمع الاقتصادية وتطورها وانهيارها وذلك بتحليلها مجموعة الميول المتناقضة وردّها إلى ظروف المعيشة والإنتاج الواضحة المعالم لمختلف طبقات المجتمع وبإبعادها اختيار الأفكار “القائدة” أو تأويلها على نحو ذاتي واعتباطي ويكشفها عن جذور جميع الأفكار وجميع الميول المتباينة في أوضاع القوى المنتجة المادية دون استثناء. إن الناس هم صانعوا تاريخهم ولكن ما الذي يحدد دوافعهم وخصوصا دوافع الجماهير البشرية؟ و ما هو سبب نزاعات الأفكار والمطامح المتضادة؟ وماذا يمثل مجموع هذه النزاعات في مجمل المجتمعات البشرية وما هي الشروط الموضوعية لإنتاج الحياة المادية التي يقوم عليها أساس كل نشاط الناس التاريخي؟ وماهو قانون تطور هذه الشروط؟ إن ماركس قد أعار انتباهه لهذه المسائل ورسم الطريق لدراسة علمية للتاريخ بوصفه حركة تطور واحدة تسير وفق قوانين معينة رغم تنوعها العجيب ورغم جميع تناقضاتها.
الصراع الطبقي :
من المعلوم أنه في كل مجتمع تتصادم مطامح البعض مع مطامح البعض الآخر وأن الحياة الاجتماعية مليئة بالتناقضات، وأن التاريخ يكشف لنا عن الصراع الذي بين الشعوب والمجتمعات، كما يقوم داخل الشعوب والمجتمعات نفسه، وأنه يبين لنا أيضا مراحل متعاقبة من الثورة والرجعية، من السلم والحروب، من الركود والتقدم السريع أو الانحطاط. إن الماركسية قد رسمت النهج الموجه الذي يتيح اكتشاف وجود القوانين في هذا التعقيد والتشوش الظاهر ونعني بهذا نظرية الصراع الطبقي. فقط دراسة مجمل المطامح لدى جميع أعضاء مجتمع ما أو عدد من المجتمعات تسمح بتحديد نتيجة هذه المطامح تحديدا علميا. هذا مع العلم أن المطامح المتناقضة يولدها تباين الأوضاع وشروط الحياة لدى الطبقات التي ينقسم إليها كل مجتمع. يقول ماركس في “البيان الشيوعي”: “إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا (ثم يضيف انجلس فيما بعد: ما عدى المشاعية البدائية) لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات. فالحر والعبد، والنبيل و العامي، والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي باختصار، المضطهدون والمضطهدين، كانوا في تعارض دائم وكانت بينهم حرب مستمرة، تارة ظاهرة، وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين معا [...] أما المجتمع البرجوازي الحديث الذي خرج من أحشاء المجتمع الاقطاعي الهالك فإنه لم يقض على التناقضات بين الطبقات بل أقام طبقات جديدة محل القديمة وأوجد ظروفا جديدة للاضطهاد وأشكالا جديدة للنضال بدلا من القديمة. إلا أن ما يميز عصرنا الحاضر، عصر البرجوازية، هو أنه جعل التناحر الطبقي أكثر بساطة. فإن المجتمع أخذ بالانقسام، أكثر فأكثر، إلى معسكرين فسيحين متعارضين، إلى طبقتين كبيرتين العداء بينهما مباشر: هما البرجوازية و البروليتاريا”. ومنذ الثورة الفرنسية الكبرى كشف تاريخ اوروبا في عدد من البلدان على نحو بديهي خاص عن السبب الحقيقي للأحداث وهو صراع الطبقات. فمنذ عهد عودة الملكية [12] ظهر في فرنسا عدد من المؤرخين (تييري وغيزو ومينيه وتيير) الذين كانوا مجبرين عند تلخيصهم لما كان يحدث أن يعترفوا بأن الصراع الطبقي موجود وأنه المفتاح الذي يتيح فهم كل تاريخ فرنسا. ولكن المرحلة الحديثة الأخيرة، مرحلة انتصار البرجوازية التام، والمؤسسات التمثيلية والاقتراع الموسع (إن لم يكن العام)، مرحلة الصحافة اليومية الزهيدة الثمن، التي تتغلغل بين الجماهير إلخ. هذه المرحلة قد أثبتت بمزيد من الجلاء أيضا (و لو أحيانا على نحو وحيد الجانب و”سلمي” و”دستوري”) إن الصراع الطبقي هو محرك الأحداث. إن المقتطف التالي من “البيان الشيوعي” يبين لنا ما طلبه ماركس من علم الاجتماع من وجهة نظر التحليل الموضوعي لأوضاع كل طبقة من طبقات المجتمع الحديث بالارتباط مع تحليل تطور هذه الطبقة: “و ليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن أمام البرجوازية وجها لوجه إلا طبقة واحدة ثورية حقا هي البروليتاريا. إن جميع الطبقات الأخرى تنحط وتنقرض في النهاية مع نمو الصناعة الكبرى أما البروليتاريا فهي – خلافا لذلك – أخص وأساس منتجات هذه الصناعة. إن الشريحة السفلى من الطبقة المتوسطة و صغار الصناعيين والباعة والحرفيين والفلاحين تحارب البرجوازية من أجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فهي ليست إذن ثورية بل محافظة وأكثر من محافظة أيضا إنها رجعية. إذ أنها تريد أن تدور عجلة التاريخ إلى الوراء. وإن حدث وأن كانت ثورية فذلك لأنها في حالة انتقال إلى صفوف البروليتاريا وبذلك لا تدافع عن مصالحها الآنية بل عن مصالحها المستقبلية وهي تتخلى عن وجهة نظرها الخاصة لتتخذ لنفسها وجهة نظر البروليتاريا”. وفي جملة من المؤلفات التاريخية أعطى ماركس أمثلة ساطعة وعميقة عن علم التاريخ المادي وعن تحليل ظروف كل طبقة بذاتها و أحيانا ظروف مختلف الجماعات والفئات في الطبقة الواحدة وبين على نحو ساطع لماذا وكيف “أن كل نضال طبقي هو نضال سياسي”.[13]إن المقطع الذي استشهدنا به آنفا يبيّن بوضوح كم هي معقدة شبكة العلاقات الاجتماعية و الدرجات الانتقالية بين طبقة وأخرى وبيّن الماضي والمستقبل التي يحللها ماركس ليظهر حاصل كل التطور التاريخي.
إن نظرية ماركس تجد تأكيدها وتطبيقها الأكثر عمقا وشمولا وتفصيلا في مذهبه الاقتصادي.
****
انظر “العائلة المقدسة”، القسم الثامن، لماركس وانجلز.
2. “رأس المال”، ماركس وانجلز، المجلد الأول.
3. “ضد دوهرينغ”، فريديرك انجلز.
4. الغنوصية هي فلسفة مثالية تقر بأنه لا يمكن إدراك العالم وأن عقل الإنسان محدود وليس بمقدوره معرفة ما يتجاوز مملكة الحواس. وللغنوصية أشكال مختلفة: فيقر بعض الغنوصيين بالوجود الموضوعي للعالم المادي ولكنهم ينكرون إمكانية معرفته وينكر آخرون بوجود العالم المادي بحجة أن الإنسان لا يمكنه معرفة ما إذا يوجد شيء ما خارج حواسنا.
نقد – أطلق كانط هذا الاسم على فلسفته المثالية معتبرا القدرة الادراكية للإنسان هي الهدف من تلك الفلسفة. نقدية كانط قادته إلى الاقتناع بأن عقل الإنسان لا يمكنه معرفة طبيعة الاشياء.
الفلسفة الوضعية – نزعة واسعة الإنتشار في الفلسفة البرجوازية وعلم الاجتماع. أسسها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي كونت (1798–1857). يرفض الوضعيون إمكانية إدراك النظم والعلاقات الداخلية وينكرون كذلك دور الفلسفة كمنهج للمعرفة وتغيير العالم الموضوعي. فهم يختزلون الفلسفة في حصيلة من المعطيات توفرها مختلف فروع العلم ووصف سطحي لنتائج الملاحظة المباشرة. تعتبر الوضعية نفسها أنها “فوق” المادية و المثالية إلا أنها في الواقع هي ليست إلا نوع من المثالية الذاتية.
5. “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية” لفريدريك انجلز.
6. “ضد دوهرنغ” لفردريك انغلز.
7. “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية” لفردريك انجلز.
8. “ضد دوهرنغ” لفريديرك انجلز.
9. “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية” لفريدرك انجلز.
10. انظر “رأس المال” لكارل ماركس، المجلد الأول.
11. “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” لكارل ماركس (1859 ، 12. الاستعادة – الفترة بين 1814 و1830 في فرنسا عندما كانت السلطة في البوربون واعيدت الى العرش بعد قلب نظام الحكم من قبل الثورة البرجوازية الفرنسية في 1792.
انظر الأعمال الكاملة لماركس وانجلس، المجلد الأول، موسكو 1973، الصفحات: 108–109 و116 و117–118.
المصدر :اكتب كى لا تكون وحيدا
0 للتعليق >>> إضغط هنا:
إرسال تعليق