القفز على السلطة ـ حكومة الضباط الاحرار ، ثورة يوليو 1952


جاء الضباط الى الحكم فى ظل جو مشبع بروح ثورة الجماهير العفوية العاجزة ،وبروح حرب محبطة للطبقة المسيطرة والاحتلال ضد هذه الثورة .. جاءوا فى ظل طموحات الطبقة المسيطرة فى نظام مستقر وفى ظل أمانى الانتلجينسيا والطبقات الادنى فى حياة أفضل ، بالاستقلال والاصلاح الاجتماعى .
جاء الضباط فى ظل توتر اجتماعى الا انه كان فى إطار حالة من التوازن السياسى ، فالاتجاه نحو التجذر والاستقطاب كان قد انعكس منذ 26 يناير 1952 وصارت كل الاطراف المتصارعة تسير شيئاً فشيئاً الى التحلل والفشل .
ـ لم يكن لدى الضباط أيديولوجيا ، ولا برنامجا واضح المعالم ولا خطة لاعادة بناء المجتمع .. لم يشكل الضباط الاحرار حزباً سياسيا ، وانما اكتفوا بتكوين منظمة من ضباط الجيش فقط من ذوى الرتب الصغيرة والمتوسطة التى يختلف أعضاؤها فكرياً ، بل ويحمل بعضهم ايديولوجيات متناقضة ، وانما جمعهم هدف واحد هو إيجاد مخرج للنظام من الحالة السائدة ، التى تعتبر فى قاموسهم الخاص حالة من الفساد العام ، الذى لمسوه جيداً حين ضحى بهم النظام فى حرب هزلية عام 1948 ، ويتضح ذلك من منشوراتهم ثم من برنامجهم ذى النقاط الست الشهيرة ، وقد تربى زعيمهم فى مدرسة " الكل فى واحد " .. نَبَذ الاحزاب مبكراً .. وكان يحلم بأن يصبح ذلك " البطل الذى ينتظرة الشرق " على حد تعبيرة الشخصى، وبلغة المصريين كان يرى فى نفسة " ابن البلد " .. لم يكن يؤمن ابداً بالجماهيرية ولم يسمح بدخول اى مدنى فى تنظيمه ولا حتى جندى واحد ، ولم يحاول مطلقاً حتى تشكيل جبهة ثورية من اى نوع .. وبالطريقة التى اقام وادار بها تنظيمة ودبر بها انقلابة حدد كيف سيدير المجتمع كله !
( وبغض النظر عن حسن نواياهم فهم فى النهاية قد اقتنصوا سلطة فارغة ) 
وبدلاً من ان يقبعوا فى ثكناتهم تحت إمرة يد مرتعشة وجدوا انفسهم يزيحون هذه اليد بسهولة ويسر ، ولسان حالهم يقول : لماذا لا تُسير الامور كما نقرر ونحن القوة الوحيدة فى البلاد القادرة على الحركة ؟
لقد استطاع مائة ضابط ، رغم وجود احزاب عريقة وجيش الاحتلال فى القناة وجماهير ثائرة .. مثبتين عجز الجميع ،، ويبدو من اقوال بعض المراقبين ان اتفاقات محددة قد تمت بين تنظيم الضباط والانجليز والامريكيين قبل الانقلاب ، وانهم يحصلوا على موافقة الطرفين على عدم التعرض لانقلابهم  !!
وفى الحقيقة فقد منحت حالة التوازن السياسى لهؤلاء الفرصة لكى يتحولوا من آداة فى يد الطبقى الحاكمة الى سادة للمجتمع كله ... 
لقد غرقت القوى السياسة فى صراع لا جدوى منه ، اذ لم يكن من بينها من يستطيع ان يحسم الصراع الاجتماعى والسياسى لصالحة .. وقد صارت الآلة العسكرية التى لم تشكل ـ كمؤسسة ـ أحد أطراف الصراع الاجتماعى السياسى المحتدمة آنذاك . اقوى قوة سياسية فى البلاد ، ويعود الفضل فى ذلك الى كونها المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التى وقفت خارج الصراع المذكور ، بل انها قد ظهرت امام الشعب كضحية للنظام فى حرب 1948، مما منحها احتراما خاصا من قبل الجماهير ،، اما عن برنامج الضباط الاحرار فقد كانوا يحملون برنامجاً مشوشاً ومجرداً وقد طرحوا على انفسهم مهمة تحقيق هذا البرنامج المشوش والذى اكسبه تشوشه  ـ وهذا امر له مغزاه ـ قوة كبيرة .. فالمعانى المجردة  لا تزال تقبل الجدل وبالتالى تحمل آمال الجميع ،، لم يكن من الممكن للضباط ان يحكموا البلاد فى ظل الخريطة السياسية التى كانت عليها . فالنظام القائم بتشريعاتة ونظمة المختلفة لا يستوعب الحكم العسكرى ،" فالدستور لا ينص على ذلك والقوانين لا تعطى العسكريين اى حقوق سياسية ، وكافة القوى السياسية تريد السلطة لنفسها لا للعسكريين . واذا كانت هذه القوة لم تعارض الانقلاب فذلك لأن كل منها نظر اليه على انه جسرها الخاص الى السلطة ...

طرح الضباط عدة مبادئ لا ترقى الى مستوى البرنامج ، وقد غلب عليها طابع العمومية . وقد اعطاهم هذا الطابع المطاط لبرنامجهم فرصة كبيرة لضم صفوفهم أولاً ، ثم لتجميع الجيش حولهم ثانياً ، ثم جذب الشعب ناحيتهم ثالثاً، ثم تفادى استعداء الطبقة المسيطرة او الدوائر الغربية وهذا رابعاً ، ثم لتدبير اية تصرفات فى المستقبل .. وبدلاً من المزايدة على الجميع اكتفوا بطرح نقاط عامة لا تثير غضب الكثيرين؛ بحيث يمكن كسب ود مختلف الاطراف بقدر الامكان بدلا من كسب عدائهم .. كذلك اعلنت الالة العسكرية صراحة انها منذ الآن فصاعداً ستلعب دورها الخاص وانها سوف تعيد صياغة  النظام وفقا لما تراه " بأسم الشعب " كما وعدت بالعودة الى الثكنات بعد تنفيذ هذه المهمة .
طلبت آلة الانقلاب من الشعب أن يركن الى الهدوء والسكينة وخرجت مدافعها الى الشوارع منذرة متوعدة " كل من لا يحترم إرادتها الخاصة " والتى اسمتها ارادة الشعب
كما اعلنت للشعب الذى دعتة الى السكون .
وفى ظل المدافع راح الضباط يزيلون كل ما اعترض سبلهم الى الانفراد بالسلطة وأولها أدوات الصراع الاجتماعى . لقد جاءوا الى الحكم بفضل هذا الصراع عينة ! ومع ذلك كان تجميده شرطاً لعدم تكرار الانقلاب نفسة ..
بحيث يصبح وجودها فى حد ذاته مبرراً لحكمها . وبدلآ من ان تعتمد على ظرف استثنائى مر به المجتمع كان عليها ان تخلق شروطاً ( دائمة الحكم البيروقراطى )
بإختصار أصبح عليها ان تكتسب " شرعية " وجودها فى السلطة ، ليس من القانون فحسب بل ومن الشعب والنظام ايضاً..

ــ تصفية المعارضة العمالية وضرب المنظمات الماركسية 

فى الوقت الذى اعلن الضباط فيه عن مشروع الاصلاح الزراعى والغاء الالقاب وخلع الملك ، كان العمال يرون فى السلطة الجديدة صورتهم ، الا انهم لم يلحظوا بعد انها صورة معكوسة فانتفضوا فى كفر الدوار " أحد اهم المناطق الصناعية المتطورة نسبيا آنذاك " واحتلوا بعض المصانع واستولوا على إدارتها وطردوا مديريها رافعين عدة مطالب ، كمنع الفصل التعسفى وانتخابات لنقابات حرة وتقنين حق الاضراب ، بالاضافة الى مطالب أخرى ..
لقد انتفض العمال ضد الادارات واصحاب رأس المال وليس ضد الضباط الاحرار ، اذ كان برنامج حكومة الانقلاب هو الذى شجع العمال على الانتفاضة وربما كانوا ينتظرون من الحكومة العسكرية ان تنصفهم ، ولكن كانت المفاجأة كبيرة ؛ إذ اثار اعتصامهم ذعر النظام كله ؛ فأطلقت الطبقات الحاكمة صيحات الرعب من كل صوب ، مطالبة بأشد العقاب للعمال ، وقام النحاس باشا بنفسة بلوم العمال وطالبهم باللجوء للطرق القانونية ، بل اتهم الوفد رجال القصر بتدبير الاضراب للقضاء على الثورة !!!
كما أصدر الحزب الوطنى بياناً يهاجم فيه العمال . وكان من الطبيعى ان ينزعج رجال الصناعة مطالبين بسحق حركة العمال . وكان هؤلاء " رجال الصناعة " هم اكثر الجميع رعباً إلا ان الضباط الاحرار كانوا الاكثر عملية ؛ ((  فإقتحم رجال الجيش والبوليس معاً بأمر السلطات المصانع مطلقين الرصاص على العمال واحتلوا المصانع بالقوة بعد معركة كبيرة مع المضربين )) ، اللذين تم اعتقال عدد كبير منهم وقدم البعض للمحاكمة العسكرية "وصدر حكم بالاعدام شنقاً " وفوراً على محمد البقرى ومصطفى خميس ، دون ان يسمح للعمال بمحام ، كما رفضت اعاد المحاكمة ثم أصدرت الحكومة بياناً الى جميع طوائف الشعب ـ وخاصة العمال ـ انها ستعتبر اى خروج على النظام او اثارة الفوضى خيانة ضد الوطن وجزاء الخيانة معروف للجميع، وكان هذا هو اول اعلان للحكومة الجديدة يتعلق بمسألة الحريات الديمقراطية ، ورغم ذلك سمحت السلطة " بإثارة الفوضى " فى الجامعة حين قام افراد من الاخوان المسلمين بالاعتداء على الشيوعيين بالضرب بالخراطيم والعصى والسكاكين واصابة عديد منهم .
وقد عاد الهدوء الى كبار الملاك ورجال الاعمال بينما استمر الضباط فى اتخاذ أجراءات مطمئنة لهم ؛ فصدرت عدة قرارات ( تجرم الاضرابات ) وتضع النقابات العمالية بأموالها تحت هيمنة الدولة وتحرمها من النشاط السياسى ، كما صودرت الصحف اليسارية وجرى اعتقال عدد كبير من الشيوعيين ،ولضمان عدم حدوث ردود افعال اخرى أصدرت الحكومة قرار يمنع الفصل التعسفى للعمال وذلك فى مارس 1953 كما تم رفع الحد الادنى للاجور بالنسبة لعمال الصناعة ، بجانب منح ضمانات أخرى للعلاج والاجازات المختلفة . ولكن لم تنفذ هذه القرارات بشكل كامل !
اما عن بعض المنظمات الماركسية فقد اتخذت موقفاً عدائياً من الضباط منذ البداية ، وخصوصاً بعد احداث كفر الدوار ، ولكنها اكتفت بإتهام السلطة بالفاشية ،
فى الفترة بعد أحداث كفر الدوار اشتدت موجه الاعتقالات للشيوعين ومصادرة صحفهم وبعد حل الاحزاب ، قدم يوسف صديق أحد اهم قادة الضباط وهو ماركسى استقالتة من مجلس قيادة الثورة ولم يكن فى موقف يمكنة من الدخول فى مواجهة ناجحة مع الناصريين ، الذين نفوه الى الخارج وحين عاد سراً حددوا اقامته ..

استخدم الضباط اسلوباً تقليدياً لتصفية الحركة العمالية : العصا والجزرة ، مع تكثيف الدعاية المعادية للشيوعية ، ويدل نجاح هذا الاسلوب على ان الحركة العمالية كانت قد تدهورت سياسياً وتنظيمياً الى الحد الذى حرمها من القدرة على المبادرة والتمسك ببديل لاصلاحات الضباط ، بحيث صارت حركة رد فعل إزاء الاخير .. وبذلك راحت تفقد استقلاليتها تدريجياً .. فى اتجاه الخضوع لحكومة الضباط .

المصدر : كتاب  ( اليسار والناصرية والثورة المضادة ) لـ  عادل العمرى 
  

0 للتعليق >>> إضغط هنا: