الفرد في مجتمع شيوعي - بيتر كروبوتكين




الدولة الشيوعية هي يوتوبيا تخلى عنها أنصارها و حان الوقت لكي نتجاوزها . سؤال أكثر أهمية يجب التفكير فيه هو : فيم إذا كانت الشيوعية اللاسلطوية ( الأناركية ) أو الحرة تعني انتقاصا من الحرية الفردية ؟
في الواقع في كل النقاشات عن الحرية تحجب أفكارنا بالتأثير الباقي للقرون الماضية من العبودية و الاضطهاد الديني .
يقدم الاقتصاديون العقد الإجباري ( تحت التهديد بالجوع ) بين السيد و العامل على أنه يقوم على الحرية . السياسيون أيضا يقولون نفس الشيء عن الحالة الراهنة للمواطن الذي أصبح عبدا و دافع ضرائب للدولة . أكثر الأخلاقيين تقدما , مثل ميل و أتباعه الكثر , يعرفون الحرية بأنها الحق في فعل أي شيء باستثناء انتهاك حرية الآخرين . ما عدا أن كلمة "حق" هي كلمة مشوشة جدا وصلتنا من العصور السابقة , قد لا تعني شيئا أو تعني الكثير جدا , فإن تعريف ميل سمح للفيلسوف سبنسر و الكثير من الكتاب و حتى بعض اللاسلطويين ( الأناركيين ) الفردانيين بأن يعيدوا بناء المحاكم و العقوبات القانونية , حتى عقوبة الإعدام – أي أن يعيدوا في نهاية المطاف إدخال الدولة ذاتها التي انتقدوها هم أنفسهم بشكل يثير الإعجاب . تختبأ فكرة الإرادة الحرة أيضا خلف هذه الحجج .
إذا وضعنا جانبا الأفعال غير الواعية و نظرنا إلى الأفعال المقصودة ( الواعية ) فقط ( تلك التي يحاول القانون و المنظومات الدينية و العقابية أن تؤثر فيها ) نجد أن كل فعل من هذا النوع يسبقه نقاش ما في الدماغ البشري , مثلا , "سأخرج و أتمشى" قد يفكر أحدهم هكذا , "لا , لدي موعد مع صديق" أو "لقد وعدت بأن أنجز عملا ما" أو "زوجتي و أطفالي سيحزنون للبقاء في البيت" أو "سأفقد عملي إذا لم أذهب إلى العمل" .
التفكير الأخير يشير إلى الخوف من العقاب . في الحالات الثلاثة الأولى سيكون على هذا الإنسان أن يواجه نفسه فقط , و عاداته التي يخلص لها , تعاطفه . و هنا يكمن كل الفرق . نقول أن الإنسان يجبر على فكرة أنه يجب أن يتخلى عن عمل كذا و كذا خوفا من العقاب , هذا ليس إنسانا حرا . و نؤكد نحن أن الإنسانية يمكنها و يجب أن تحرر نفسها من الخوف من العقاب , و أن هذا يمكن أن يؤسس لمجتمع لاسلطوي ( أناركي ) سيختفي منه الخوف من العقاب و حتى عدم الرغبة في التعرض للتوبيخ ( اللوم ) . نحن نسير في اتجاه هذا المثال . لكننا نعرف أنه لا يمكننا أن نحرر أنفسنا من عاداتنا التي نخلص لها ( أي الالتزام بكلمتنا أو وعودنا ) و لا من تعاطفنا ( أي الخوف من أن نسبب الألم لأولئك الذين نحب و الذين لا نرغب بأن نسببه لهم أو حتى أن نخيب ظنهم ) . في الحالة الأخيرة ليس الإنسان حر أبدا . ( روبنسون ) كروز , على جزيرته , لم يكن حرا . اللحظة التي بدأ فيها ببناء سفينته , بزراعة حديقته أو الاستعداد للشتاء , فقد وقع في المصيدة بالفعل , جرى امتصاصه من قبل عمله . إذا شعر بالكسل و فضل البقاء مستلقيا في كهفه , لو تردد للحظة فإنه رغم كل ذلك سيذهب إلى عمله في النهاية . في اللحظة التي أخذ يرافق فيها كلبا , عنزتين أو ثلاثة , و خاصة بعد أن قابل فرايدي ( جمعة ) لم يعد حرا بشكل مطلق بالمعنى الذي تستخدم فيه هذه الكلمات في النقاشات . أصبح لديه التزامات , أصبح عليه أن يفكر بمصالح الآخرين , لم يعد الفرداني المثالي الذي نتوقع أن نراه فيه أحيانا . في اللحظة التي أصبح لديه زوجة أو أطفالا , سواء علمهم هو أو تعهدهم الآخرون ( أي المجتمع ) , في اللحظة التي امتلك فيها حيوانا داجنا , أو حتى فقط بستانا يحتاج إلى أن يروى في ساعات معينة – من هذه اللحظة لم يعد ذلك الإنسان الذي "لا يهتم لأي شيء" , ذلك "الفرد" , "الفرداني" الذي يقدم أحيانا كنموذج للإنسان الحر . لا على جزيرة كروز , و لا في أي مجتمع من أي نوع , وجد مثل هذا النموذج . سيأخذ الإنسان في اعتباره و طالما فعل مصالح البشر الآخرين بما يتناسب مع إقامة علاقات منفعة ( مصلحة ) متبادلة معهم , و كلما فعل أكثر كلما أكد هؤلاء الآخرون على مشاعرهم و رغباتهم .
هكذا لا نجد أي تعريف آخر للحرية سوى التعريف التالي : إمكانية العمل دون الخضوع للخوف من العقاب من قبل المجتمع عند القيام بهذه الأفعال ( العقاب مثل التقييد الجسدي , التهديد بالجوع أو حتى الرقابة , إلا إذا أتت من صديق ) .
فهم الحرية بهذا المعنى – و نحن نشك إذا كان من الممكن إيجاد تعريف أكثر واقعية لها – يمكننا من القول أن الشيوعية يمكن أن تحد من , و حتى أن تلغي , كل الحرية الفردية و في الكثير من المجتمعات ( التجمعات ) الشيوعية جرت محاولة فعل ذلك , لكن يمكنها أيضا أن تعزز هذه الحرية إلى أقصاها .
يتوقف كل شيء على الأفكار الأساسية التي يقوم عليها هذا الاتحاد ( هذه الرابطة ) . ليس شكل الاتحاد هو الذي يؤدي إلى العبودية , إنها أفكار الحرية الفردية التي نأتي بها معنا إلى هذا الاتحاد هي التي تحدد الطبيعة التحررية لهذا الاتحاد .
هذا ينطبق على كل أشكال الاتحادات . تعايش فردين تحت سقف واحد قد يؤدي إلى عبودية أحدهما لإرادة الآخر , كما قد يؤدي إلى حرية الاثنين . نفس الشيء ينطبق على العائلة أو على تعاون شخصين في الزراعة أو في كتابة جريدة . نفس الشيء فيما يتعلق بالاتحادات الصغيرة أو الكبيرة , ينطبق على كل مؤسسة . هكذا نجد في القرون العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر كومونات تألفت من بشر متساوين , بشر أحرار بشكل متساوي – و بعد ذلك بأربعة قرون نرى نفس الكومونة تدعو إلى الخضوع لديكتاتورية راهب ما . استمر القضاة و القوانين , و أصبحت فكرة القانون الروماني و فكرة الدولة ميهمنة , بينما اختفت أفكار الحرية و حل النزاعات بواسطة التحكيم و تطبيق الفيدرالية إلى أقصى حد , من هنا ظهرت العبودية . حسنا , من بين كل المؤسسات أو أشكال التنظيم الاجتماعي التي جربت حتى اليوم , فإن الشيوعية هي الوحيدة التي تضمن أقصى قدر من الحرية الفردية – إذا تحققت الفكرة التي تنجب ( تولد ) الحرية من المجتمع , أي اللاسلطوية ( الأناركية ) .
الشيوعية قادرة على أن تنهض بكل أشكال الحرية أو الاضطهاد التي لا تستطيع بقية المؤسسات أن تقوم بها . قد تنتج وحشا حيث يطيع الجميع أوامر شخص أعلى , و قد تنتج تنظيما حرا بشكل مطلق , يعطي الحرية الكاملة للفرد , و يستمر بالوجود فقط طالما كان الشركاء راغبين بالبقاء سوية , و حيث لا يفرض أي شيء على أي شخص , تنظيما يكون مهتما أكثر منه مدافعا , يكبر و يوسع حرية الفرد في كل الاتجاهات . قد تكون الشيوعية سلطوية ( في هذه الحالة سرعان ما سينحط المجتمع ) أو قد تكون لاسلطوية ( أناركية ) . الدولة على العكس لا يمكن أن تكون كذلك . إما أن تكون سلطوية أو أنها لن تكون دولة أبدا .
تضمن الشيوعية الحرية الاقتصادية أفضل من أي شكل آخر للاتحاد , لأنه يمكنها أن تضمن الرخاء ( السعادة ) و حتى الرفاهية , مقابل عدة ساعات من العمل عوضا عن عمل يوم كامل . إن توفير 10 أو 11 ساعة من وقت الفراغ يوميا من الساعات 16 التي نقضيها يقظين ( إضافة إلى 8 ساعات من النوم ) تعني أن نضخم حريتنا الفردية إلى نقطة كانت لآلاف السنوات أحد أهداف الإنسانية .
يمكن فعل هذا اليوم في مجتمع شيوعي حيث يستطيع الإنسان أن يتفرغ على الأقل ل 10 ساعات يوميا . هذا يعني الانعتاق من أحد أثقل أعباء العبودية على الإنسان . هذا زيادة في الحرية .
أن نقر بأن كل البشر متساوين و أن نلغي حكم الإنسان للإنسان هذه زيادة أخرى في الحرية الفردية لدرجة لم يعترف بها أي شكل آخر من التنظيم و لا حتى كحلم . يصبح هذا ممكنا فقط بعد القيام بالخطوة الأولى : عندما يملك البشر وسائل وجودهم و لا يكرهون ( يجبرون ) على أن يبيعوا عضلاتهم و أدمغتهم لأولئك الذين يريدون استغلالهم .
أخيرا إن الإقرار بتنوع الوظائف ( الأعمال ) على أساس أن يتقدم الجميع و أن يتنظموا بطريقة يكون فيها الإنسان حر بشكل مطلق في وقت فراغه , بينما قد يستيطع تغيير عمله أيضا , تغيير يحضره له تعليمه و توجيهه المبكر – هذا يمكن أن يطبق بسهولة في مجتمع شيوعي – هذا أيضا يعني انعتاق الفرد , الذي سيجد كل الأبواب مفتوحة في كل اتجاه نحو تطوره الكامل .
أما فيما يتعلق بالبقية , يعتمد كل شيء على الفكرة التي يقوم عليها المجتمع . نعرف تجمعا ( مجموعة ) دينيا يشعر فيه أعضاؤه بأنهم تعساء , و تبدو علامات ذلك على وجوههم , و اعتادوا على أن يخاطبوا : "أيها الأخ , أنت حزين, لكن ضع تعبيرا سعيدا على وجهك , و إلا فإنك ستؤثر على بقية إخوتك و أخواتك" . و نعرف عن مجتمعات من 7 أعضاء , أحدهم مسؤول عن 4 لجان : الزراعة , الطرق و الدروب , و العناية بالمنزل , و التصدير , مع حقوق مطلقة بأن يكون رئيسا لكل لجنة . توجد بالتأكيد مجتمعات أسسها أو غزاها "مجرمو السلطة" ( نوع خاص أوصى بالانتباه له السيد لومبروز ) و عددا آخر من المجتمعات التي أسسها و صنعها من يقول بامتصاص الفرد من قبل المجتع . لكن هؤلاء البشر ليسوا نتاج الشيوعية , بل المسيحية ( التي هي سلطوية في جوهرها ) و نتاج القانون الروماني و الدولة .
الفكرة الأساسية لهؤلاء البشر الذين يقولون بأن المجتمع لا يمكن أن يوجد من دون شرطة و قضاة , أي فكرة الدولة , هذه الفكرة خطر دائم على الحرية , و ليست فكرة أساسية في الشيوعية – التي تعني الاستهلاك و الإنتاج دون حساب الحصة المضبوطة ( الدقيقة ) لكل فرد . هذه الفكرة على العكس هي فكرة الحرية , فكرة الانعتاق .

0 للتعليق >>> إضغط هنا: